على الإنترنت وفى مظاهرات واعتصامات ميادين التحرير وملاعب كرة القدم انتشرت فى الأسابيع الأخيرة عشرات الأغانى والكتابات الساخرة من المجلس العسكرى ووزارة الداخلية والفلول والسلفيين وكل قوى الرجعية فى مصر تحمل لغة نابية وتعبر بأكثر الطرق الشعبية فجاجة عن مشاعر وآراء جيل جديد لا يخجل من مزج الثقافة بالبذاءة. صحيح أن المصريين، ربما أكثر من غيرهم، مشهورون بالنكت الجنسية القبيحة، والنكت السياسية التى تهجو الحكام ببذاءة، وصحيح أن هذا النوع من الهجاء السياسى من عمر الدولة نفسها، وعلى جدران المقابر الفرعونية يمكن أن نرى بقايا الرسوم الكاريكاتيرية التى سخر فيها عمال البناء من ملوكهم وملكاتهم بتصويرهم فى أوضاع جنسية فاضحة.
وحتى الشعر العربى الفصيح الذى يقوم على خمسة أو ستة موضوعات أساسية من بينها الهجاء، فإن شعر الهجاء يتضمن عشرات وربما مئات القصائد التى تحتوى على أوصاف وتشبيهات لا مثيل لها فى البذاءة، وكلمة البذاءة هنا ليس المقصود منها أبدا التقييم الأخلاقى أو الفني، ولكنها توصيف علمى لنوع من الثقافة الشعبية معترف به فى دراسات الفنون والآداب الشعبية الأكاديمية فى كثير من بلاد العالم.. ولكن عندنا لايزال يعامل من منطلق الثقافة البورجوازية الازدواجية والمنافقة التى سادت منذ تولى العسكر للحكم بعد ثورة يوليو...وهو موضوع لا يهمنا اليوم.
ما يهمنى هنا هو أنه منذ ظهور وسائل الإعلام الرسمية الحديثة من صحافة وإذاعة وتليفزيون انقسمت الثقافة فى مصر إلى نوع مهذب وناعم ومستأنس سياسيا وجنسيا ودينيا يمكنه المرور من غربال الرقابة والذوق المحافظ للطبقة الوسطى الجديدة التى تشكلت من العسكريين وكبار وصغار موظفى الحكومة وخريجى الجامعات.
هذه الثقافة «الرسمية» والفن «الرسمى» والأدب «الرسمي» قاموا بمحاربة وإقصاء بل وإخصاء كثير من الفنون والآداب الشعبية من غناء ورقص وشعر وفنون قص وحكي، ولو كنتم تعتقدون أن المتطرفين هم أول من طالب بحرق «ألف ليلة» فلكم أن تعرفوا أن مؤسسات ثورة يوليو هى أول من أحرقت «ألف ليلة» وعشرات الكتب التراثية الأخرى مثل «الأغاني» للأصفهانى و«الحيوان» للجاحظ وأشعار أبى نواس وكتب مثل «رجوع الشيخ إلى صباه» و«الروض العاطر..» و«الوشاح فى فوائد النكاح» وغيرها، من خلال إصدار طبعات منقحة مهذبة أو بمنع طباعتها تماما لأنها تخدش الذوق العام، والذوق العام المقصود كان ذوق هذه الطبقة الطفيلية التى صعدت لسدة الحكم دون أن يكون لديها من المؤهلات سوى «الاحترام» الذى يكنه العامة لأصحاب البدلة الميرى والوظيفة الميري.
عندما ظهر اختراع «الكاسيت» ثم «الفيديو كاسيت» وانتشر فى السبعينيات كانت هذه لحظة بداية انهيار فن الغناء والسينما الرسمى، بصعود المغنين الشعبيين ثم أفلام «المقاولات» وهو ما شكل ضربة قاصمة لما يطلق عليه «العصر الذهبي» للفن المصري، ومع ظهور وسائل الاتصال الأحدث فى منتصف التسعينيات وانتشارها مع الألفية الجديدة انتهى فعليا العمر الافتراضى للراديو الرسمى والتليفزيون الرسمى، وأصبح الهاتف المحمول والانترنت وسيلة اتصال لكل أشكال التعبير المتمردة والخارجة والبذيئة.. هذه الأشكال والأعمال تحتاج إلى نظرة أكثر احتراما ودراسات أكثر جدية باعتبارها الامتداد العصرى لفنون الهجاء والتمرد الشعبى على سلطة شائخة ليس لديها سوى إعلام شائخ يستميت فى الدفاع عن آخر ورقة توت تحمى بها عوراتها.
هذه الأغانى والقصائد البذيئة المنتشرة على الإنترنت، والتى لا أستطيع للأسف نشر بعضها هنا لأننا نتبع الإعلام الرسمي، وأغلب قرائنا من أصحاب الذوق الرسمي، ينتمى فى اعتقادى لأبرع فنون الهجاء، مثله مثل فن «الجرافيتي» - أو الهجاء على الحوائط- الذى انتشر بعد الثورة، والذى يعد امتدادا مباشرا لهجاء المصريين القدماء لملوكهم على جدران المعابد