منذ عقدين من الزمن تقريبا أصبح قاموس الشتائم متسارعا في أيقاع مفرداته وزخمها وحدتها وتنوعها، ومنتشرا علي نطاق واسع بين كل الطبقات الاجتماعية بدون استثناء. أصبح الجزء البذيء منه، الذي يخص الجنس وأحيانا الدين؛ مشاعا علي الألسنة، وحل محل الشتائم الرصينة التي كانت متداولة في المجال العام في مصر في عقود سابقة. أحد أهداف قاموس البذاءة أنه يستخدم كشكل للخروج عن الذوق العام التقليدي. لجرح هذا الذوق وضربه في مقتل حيائه. علي اعتبار أن هذا الحياء يحمل بين طياته روحا محافظة لا تريد أن تري الجانب الواقعي والخشن من الحياة والنفس. لذا انتشر هذا القاموس بين شرائح المثقفين الذين كان ضمن أهدافهم جرح هذا الذوق التقليدي. أتذكر موقف البطل المثقف في إحدي الروايات التي تدور أحداثها في سبعينيات القرن الماضي. كانت غاية هذا البطل أن يضرط في صالون برجوازي. فقد كان القاموس البذيء لهذا الوعي موجها لخدش حياء هذه الطبقة البرجوازية، والانتقام من تقاليدها في أعز مكان تملكه في البيت وهو الصالون. الضراط ضمن هذا الوعي الجارح فعل من أفعال البذاءة لتلك الحقبة، والتي يمكن أن نراها الآن كفعل تمرد بريء وخجول ومكتوم. البذاءة رصيد مخزون لأي شعب لتوجيه الضربات وجرح الشكل المزيف الظاهر من المجتمع والذي يمنع ظهور أشكال اخري أكثر حقيقية. هي أداة ضمن أدوات أخري، لتمرير هذا الشكل الباطني الحقيقي، كحارس أمين يفتح ثغرة في جدار الذوق والتقاليد والمستقر، وليست غاية في حد ذاتها. في بداية فترة مراهقتي وخروجي من حيز البيت البرجوازي للشارع، كانت علبة السجائر وبكتاب البذاءةب هما أول العلامات الظاهرة لهذا التمرد. كان استخدام هذا القاموس البذيء له حلاوة في فمي ومذاق شهي للغاية، ثم مع مرور الوقت أصبحت الكلمات البذيئة مثل السيجارة، استطعم بمرارتها بعد أن أدمنتها وفقدت مذاقها الطازج القديم. بعد الثورة تسارع إيقاع قاموس الشتائم ودخل حيز المجال العام بكل أشكاله، من الشارع لوسائل المواصلات، لشبكة التواصل الاجتماعي. لم يعد هناك مكان محرم عليه. ربما قبل الثورة كانت البذاءة تعبر عن تحلل اجتماعي، أما بعدها فقد اكتسبت قوة ومبررا من هذا الإطار الثوري. توارت البذاءة خلف الثورة وأصبحت غير قادرة علي أن تواكب وتيرتها، فازدات شراسة، ولم تبدع لغة جديدة. ولكن هذا القاموس البذيء لابد وأن يكون له أخرب يوجه إليه، طبقة، ذوق، تقليد. أسأل نفسي أين تذهب كل هذه الشتائم، إلي أي آخرب توجه الآن؟ هل أصبحت لغة للتواصل، بعد أن كانت أداة لجرح التقاليد؟ هل ميعت لغة البذاءة لغة النقد، وجعلتها شفاهية ساكنة؟ من الذي يسمعنا علي الطرف الآخر، ويُخدش حياؤه وينتفض؟ هل نوجهها لأنفسنا؟ هل تحولت إلي لغة للتنفيس عن الغضب فقط؟ لغة لاتطمح لتغيير الأدوار والطبقات؟ هل هناك طبقة أو تقاليد مستقرة اليوم يمكن أن نوجه لها كل هذه الحدة؟ فجزء من الثقافة الجارحة في مصر له أصول طبقية، ولكنه استمر وسرح واختفي أصله، حتي بعد أن ظهرت هشاشة الطبقات. هل نحنس أصبحنا هذا الآخرس الذي نوجه له سبابنا وحدتنا؟ هل تصاعد النبرة والحدة، يعني أن هذا الآخر أو الطبقة تجلي بكل قوته وكشر عن أنيابه، فاستلزم الأمر مواجهته بحدة مماثلة؟. أم أن هذه الموجة من البذاءة تعبر عن طوفان أخير، وامتداد للتحلل الذي كان موجودا قبل الثورة، لتنقلب الموجة بعدها، فمن المستحيل أن يظل قاموسا واحدا مسيطر علي الشفاهة. ملاحظة أخيرة، كانت البذاءة مقتصرة علي عالم الرجال، الآن دخلت عالم النساء. لم تعد المرأة هي الآخر الخفي، الذي بداخلنا أو معنا، والذي نخشي أن نخدشه. هل هذا لأن المرأة كانت تمثل، بشكل ما، عذرية المجتمع التي نريد أن نحافظ عليها؟