ممدوح شاهين صاحب الفكرة.. بدأت بشرف.. وانتهت عند الجنزورى تصنيع رئيس مدنى فى ورشة المجلس العسكرى
قد يكون لديك ألف دليل أن المجلس العسكرى لا يريد أن يترك السلطة، بعد أن تذوقها واستطعمها فطابت له، لكن ليس لديك معلومة واحدة يمكن أن تصمد بأن المجلس سيدفع بأحد رجاله ليكون هو الرئيس القادم لمصر.
مؤكد أنك توقفت عند بعض التصريحات المنسوبة لأعضاء فى المجلس العسكري، مضمونها يشير إلى ان الرئيس القادم لمصر لم يظهر بعد.. وأن المرشحين الموجودين الآن ليسوا أكثر من كومبارس يجهزون المسرح قبل أن يصعده الجوكر الذى «سيقش» كل الأوراق مرة واحدة.
هذه التصريحات لم تكن من فراغ.. لم تلق جزافا.. بل كانت على خلفية فكرة ألقى بها اللواء ممدوح شاهين مساعد وزير الدفاع للشئون القانونية والتشريعية.
الفكرة ببساطة كانت أن الشعب المصرى وتحديدا بعد الثورة لن يتقبل بسهولة أن يكون الرئيس القادم عسكريا، سواء ممن خرجوا من الخدمة أو الذين يتواجدون بها، حتى لو كان لهم دور أساسى ومعروف فى حماية الثورة، ولذلك فلا مانع من تجهيز أحد المدنيين ليكون رئيسا مدعوما من المجلس، وذلك لضمان ولائه للمؤسسة العسكرية.. والأهم من الولاء أن يكون مرنا أقرب إلى العجينة الطرية التى يمكن تشكيلها والتحكم فيها دون معاناة.
بدأ تنفيذ الفكرة باختيار الدكتور عصام شرف رئيسا للوزراء.. وكان فى صالحه ما أشيع عنه من أنه كان أحد ثوار التحرير الذين شاركوا فى الثورة، ورغم أنه لم يكن خافيا على أعضاء المجلس أن شرف شارك فى الثورة بالمصادفة البحتة، وأنه حاول حتى الحظة الأخيرة تهدئة الأمور، وكان ممن يرون ضرورة منح الرئيس مبارك فرصة أخرى للعمل.. إلا أنهم رأوا فيه الرجل المناسب للمرحلة الانتقالية التى لم يكن أحد يعرف حقيقتها أو ملامحها.
كان التخطيط أن يتم تصدير الدكتور عصام شرف على أنه وجه مدنى من رجال الثورة.. وهو ما يمكنه بسهولة إذا ما نجح فى مهمته كرئيس للوزراء أن يتقبله المصريون كرئيس قادم لهم، لكن أداءه المتردى فى كل الملفات التى عمل بها جعل من كانوا يتحمسون له، يصرفون النظر عنه نهائيا والاكتفاء بكونه رئيسا للوزراء، حيث يؤدى المطلوب منه بكفاءة عالية.
شرف الذى صوره المبدع أحمد رجب بكلماته ومصطفى حسين بريشته الأسبوع الماضى فى كاريكاتير بديع نشرته جريدة «أخبار اليوم» كسفرجى يخدم المجلس العسكرى فى منتهى الطاعة :«أيوه يا أفندم أنا جي».. لم يفرط فيه المجلس ورفض استقالته التى تقدم بها أكثر من 7 مرات حتى الآن، لأنهم فى النهاية لن يجدوا أحدا مثله، ينفذ كل ما يطلب منه دون مناقشة أو اعتراض.. أو حتى مجرد امتعاض.
على مسافة قريبة جدا من عصام شرف، كان هناك الدكتور كمال الجنزورى أحد رؤساء وزراء عصر مبارك، والرجل الذى تسبب فى كارثة الخصخصة ولا ندرى لماذا لم يحاكم بجريمتها حتى الآن؟
الجنزورى ظل يقدم نفسه إلى أعضاء المجلس العسكرى طوال الوقت، وإن كان بشكل غير مباشر.. فمن بين ما كان يفعله أنه كان يرسل بتقارير شبه يومية إلى أعضاء بالمجلس يعرض لهم فيها رؤيته ووجهة نظره وطريقة الخروج منها، وهى التقارير التى أزعجت عصام شرف كثيرا، فالجنزورى بهذه الطريقة كان يتدخل فى عمله، أو على الأقل يظهره ضعيفا غير قادر على القيام بمهام منصبه.
طرح بعض أعضاء المجلس أن يتولى الدكتور كمال الجنزورى رئاسة الوزراء مرة أخرى بعد أن أثبت عصام شرف فشله، وكان الطرح مستندا على أن الدكتور الجنزورى له أرضية شعبية واسعة، كما أن الناس لا يحسبونه بشكل كامل على نظام مبارك، لأنه خرج من الوزارة مغضوبا عليه، وهو ما يضيف إليه باعتباره ممن وقفوا أمام فساد النظام السابق.
ورغم أن هذا لم يكن صحيحا إلا أن الجنزورى نجح بالفعل فى الترويج له، من خلال ظهوره المكثف بعد الثورة، وقد ظل صامتا طوال سنوات عديدة لم يتحدث خلالها عما جرى معه.
قدم الجنزورى نفسه على أنه بطل أزاحه نظام مبارك لأنه كان يقف ضد رجال الرئيس الذين كانوا لا يتوقفون عن الفساد.. بل إنه صدر نفسه كأحد الثائرين العظام، عندما قال إن هناك من بين شباب الثورة من زاروه قبل أيام قليلة من 25 يناير، وأنهم عرضوا عليه أن يشاركهم فى الثورة، لكنه أقنعهم أنه لن ينزل التحرير حتى يترك لهم الفرصة كاملة، وأن هذه الثورة ثورتهم ولا يجب أن يشاركهم أحد فيها. لم يقدم الجنزورى دليلا واحدا على صدق هذه الواقعة، لكنه وجد من يروج لها ويصدقهاويضيف له قيمة سياسية وثورية ليست فيه ولا يستحقها من الأساس.
بعض ممن كانوا يتحمسون للجنزورى فى المجلس العسكرى ويرون أنه رجل مناسب للمرحلة التى تمر بها مصر.. لم يتحمسوا لأن يكون الرجل رئيسا للوزراء، فالمنصب أقل منه ومن إمكانياته وقدراته التى لم يتوقف عن استعراضها من خلال تقاريره السرية، ولذلك فضلوا أن يكون هو الرئيس المدنى الذى يمكن أن يجهزه الجيش ويقف وراءه، وفى الوقت المناسب يدفع به إلى حلبة الصراع الكبير التى بدأت مبكرا للمنافسة على عرش مصر. كان الجنزورى نفسه قد بادر للإعلان عن رغبته لدخول سباق المنافسة على منصب الرئيس، ولأنه يريد أن يبدو مرغوبا وليس راغبا، قال إنه تسلم رسائل عديدة من مواطنين ومناشدات من معارف وأصدقاء ليترشح فى الانتخابات، وأنه يفكر فى الأمر.
لكن فجأة وبعد هذا الإعلان توقف الكلام عن مشاركة الجنزورى فى سباق الانتخابات الرئاسية.. واكتفى بالظهور فى بعض الندوات والمؤتمرات.. بل كان ضيفا أساسيا على مائدة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عندما أعلن عن وثيقة الأزهر.. وهو ما عكس أن الرجل قريب ومقرب ومرحب به فى كل مكان.
تراجع الدكتور كمال الجنزورى عن مواصلة الحديث عن ترشيح نفسه للرئاسة، تم من خلال نصيحة عسكرية.. فدخوله السباق مع عدد من المرشحين المحتملين للرئاسة مبكرا يمكن أن يساهم فى حرقه سياسيا.. من خلال دخوله فى معارك جانبية لن يربحها بسهولة، خاصة أن على رأسه بطحة كبيرة وواضحة جدا وهى إنتماؤه لنظام مبارك بصرف النظر عن الطريقة التى خرج بها من هذا النظام.
أراد المجلس العسكرى أن يحافظ على الجنزورى إذن بعيدا عن صخب المنافسات السياسية.. وعن غبار الجولات التى يتعرض فيها المرشحون لمواقف محرجة.. كما أراد أن يحميه أيضا من الدخول فى مواجهات فكرية مع تيارات سياسية ودينية عاملة ومسيطرة على الشارع المصرى بعد الثورة يمكن أن تزايد عليه، وهو ما يمكن أن يسحب من رصيده فى الشارع المصري، فيصبح بالنسبة لهم مرشحا محروقا ومحترقا، تماما مثلما حدث مع عصام شرف. كان من المفروض أن يكون الدكتور كمال الجنزورى أحد رجال النظام الذين تتم محاسبتهم عما ألحق الاقتصاد المصرى من أضرار بفعل سياسات الخصخصة، وهو ما جرى مثلا مع رئيس وزراء سابق وهو عاطف عبيد.. لكن يبدو أنه لم يتم تفعيل اتهام الجنزورى بشىء لا سياسيا ولا جنائيا حفاظا على صورته العامة.. وضمانا لعدم تجريحه حتى لا يسقط منهم ضمن من يسقطون على أعتاب الثورة.
تصنيع الجنزورى كرئيس مدنى يقف من خلفه المجلس العسكرى ليضمن من خلاله تنفيذ كل ما يريده وتمرير كل ما يشاءه من قوانين وقرارات تصب فى مصلحة المجلس، سيناريو لا يزال قائما حتى الآن، وهو ما يؤكد أن المجلس الذى يجتهد فى نفى حرصه على البقاء فى السلطة قد يكون صادقا من زاوية ما فيما يدعيه، لكن ليس صادقا كل الصدق.. لأنه يريد أن يرحل بعد أن يترك أصابعه كاملة على كرسى الرئاسة.
ورغم أنه كانت هناك تخوفات عديدة من شخصية كمال الجنزورى العنيدة التى أورثته خلافا كبيرا مع الرئيس مبارك.. يمكن أن تكون عائقا أمام التفاهمات التى يريدها المجلس من الجنزورى، لكن هذا التخوف لم يكن له أساس من الصحة. فالجنزورى من ناحية هو من عرض نفسه، وكان مستعدا لقبول أى منصب يعرض عليه، وهو بذلك طالب سلطة ولا يمكن أن يقدم على ما يمكن أن يفقده هذه السلطة، ومن ناحية ثانية فالرجل الذى كان يحلم بالرئاسة منذ شبابه لم يعد فى لياقته الجسدية أو النفسية التى قادته لمحاربة وزراء أشداء من رجال مبارك للسيطرة عليهم.. فالجنزورى يقترب الآن من الثمانين عاما.. ويسأل الله حسن الختام، ولا ختام أفضل أو أحسن بالنسبة له من أن يكون رئيسا لمصر.. دون أن يدخل فى منافسات أو يتحمل عناء مواجهات