إن أسرة القذافى الفاسدة المستبدة، عانى الناس الكثير من ويلاتهم، وامتد ظلمهم وطغيانهم ليطال البلدان العربية الشقيقة، بل إن العديد من دول العالم وشعوبها اكتوت بدرجات متفاوتة من لهيب هذا المستبد الظالم ومؤامراته الإرهابية المختلفة. ولعل فرح الليبيين ليس شماتة فى قضاء الله بالموت على هذا الطاغية، بقدر ما هو شفاء صدور قوم مؤمنين فقدوا فلذات أكبادهم، وأننا بموته بدأنا صفحة جديدة من ميلاد وطن عاش قرونا تحت نير الاستعباد والظلم والقهر.
ولأن ثورة 17 فبراير المجيدة قامت من أجل نشر العدل والخير، فإن الحق المطلق- عز وجل- لا بد أن ينصرها ويدعمها بجند من عنده، وقد ترك هذا الطاغية يصول حتى بعد قيام الثورة المباركة لحكمةٍ يقتضيها، لكن لم يهمله ليرى بنفسه مصرع أبنائه مثلما فقدت أسر ليبية عديدة أبناءها، بعد أن قام بتعذيب شبابها الثائرين واغتصب حرائرها.. وها هو الجبار رب العالمين قاهر الجبارين يذيقه الموت على أيدى الثوار.
وعلينا أن نكمل صفحتنا الجديدة بعد أن أخذنا القصاص من هذا المجرم الكبير الذى قتل أبناءنا وسرق أموالنا واغتصب نساءنا، أما من بعده فهم من ينفذون تعليماته وأوامره، وسوف يلحقهم القصاص العادل، جراء قيامهم بتنفيذ أوامر هذا الطاغية سواء بالقتل أو بالاغتصاب أو بالسرقة، لكن بأسلوب حضارى وسلوك إسلامى وبقضاء عادل وبشكل يعطى الاطمئنان للجميع.
وقد اكتشفت- من خلال استماعى للتسجيلات المتعددة من المكالمات الهاتفية بينه وبين أعوانه، أن هذا الرجل الذى كذب علينا طيلة 42 عاما- كيف كان يكذب عليه أعوانه وينقلون إليه أخبارًا كاذبة عن الثوار والثورة العارمة، ويخبرونه بأن المنطقة الفلانية والقرية والمدينة الفلانية معنا، ويقولون إنهم يهتفون لك بأنك «أنت القائد العظيم»، وكل ذلك الزور والبهتان والكذب جعل ملك ملوك إفريقيا يزيد فى طغيانه واستبداده وافتخاره بأنه المجد والعلا، وزاد فى جبروته حتى تكسر هذا الجبروت على صخرة الثوار الأشاوس.
والمطلوب منا الآن أن نعفو ونصفح ونتسامح ونوحد صفوفنا، وأن نعمل على تهدئة النفوس وإنهاء الخلافات ونبذ أى أفكار «شللية» أو «مجموعاتية»، فنحن أيديولوجيتنا ليبيا، وشلتنا ليبيا، وحزبنا ليبيا، ولا لكل من يريد أن يتسلط علينا بالقوة، ولنعلم أن وحدتنا وتسامحنا وصلحنا مع بعضنا البعض هو أكبر ضمان لحماية وطننا.
إن الأحزاب التى نريدها هى برامج وأفكار، وليست أحزاب تنتمى لإيديولوجيات، فنحن لدينا مشاكل محددة وواضحة، فهيا اعرضوا برامجكم، وليختر الشعب البرنامج الأفضل ونحن سنصوت معه، فالعالم ينظر اليوم إلى مشاكله، ومن يستطع منا حلها، فنحن معه.
وعلينا الآن فى هذه الأشهر الالتفاف حول مجلسنا الانتقالي، وأن يسرع بتشكيل حكومة تسيير أعمال قليلة العدد، غزيرة فى الكفاءة والعلم والخبرة، ثم الإسراع فى إجراء الانتخابات الخاصة بالمؤتمر الوطنى فى أقرب وقت ممكن وإتمام الانتخابات بإشراف الأممالمتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية لكى يخرج المؤتمر الوطنى منتخبا فى أقرب فرصة، حتى يقوم بملء الفراغ السياسى والتشريعى فى البلاد، ويقوم بتكليف لجنة لإعداد الدستور وتشكيل لجنة انتقالية تشرف -مع هذه الحكومة- على انتخابات المؤسسات التشريعية بعد اعتماد الدستور.
أما ما يدور الآن من لغط وتخوفات حول السلاح والثوار، فهذا كله يجب أن يعالج بعقلانية، وأعتقد جازما بأن معظم ثوارنا الأشاوس ما حملوا السلاح إلا لهدف تحرير ليبيا من العبودية، ولم يقوموا بذلك من أجل الاستيلاء على السلطة كما يصوره من يريدون أن يشوهوا صورة ثوارنا، فيزعمون أنهم يريدون نصيبًا فى الحكومة.
والحقيقة أن الثوار يريدون عدم الالتفاف على الثورة أو سرقتها، يريدون ليبيا دولة مدنية ديمقراطية، دولة قانون وعدل ومساواة، دولة دستور يستمد أصوله من مبادئ الشريعة الإسلامية.
وهنا تجدر الإشارة إلى مفهوم خاطئ فى موضوع التمثيل فى الحكومة، فالمعروف أنه لا يوجد تمثيل لا طائفى ولا مكانى ولا حزبى فى الحكومات المؤقتة أو الانتقالية، لكن التمثيل يجب أن يراعى ويتحقق فى انتخاب الشعب لممثليه فى المؤتمر الوطنى وفى البرلمان الشرعى بعد اعتماد الدستور.
أما الحكومات المؤقتة والانتقالية فهى حكومات يتوافق عليها لتسيير أعمال بصفة مؤقتة فى فترة حرجة، وبالتالى يكون معيارها الكفاءة، أما بعد انتخاب السلطة الشرعية، فيكون ذلك خاضعا لمعايير أخرى أهمها المجموعة التى تنجح فى كسب ثقة الشعب من خلال برنامجها، فهى المنوطة بتشكيل الحكومة التى ترى أنها قادرة على تنفيذ برنامجها، مع مراعاة تمثيل جميع الأطياف والفصائل.
وعودة إلى سلاح الثوار، وفى هذا الصدد أتساءل: لماذا الاستعجال؟! وأقول: يجب أن يستمر الثوار فى الاحتفاظ بأسلحتهم الخفيفة، وبشكل منظم، وتستمر كتائبهم بنفس مسمياتها، إلا ممن ارتضى بالدمج بينهم وبين بعضهم، تكون هى كتائب الجيش الوطني، وبالتالى فالأسلحة الثقيلة، تكون فى المعسكرات التى بها هذه الكتائب التابعة للجيش الوطني.
ونؤكد هنا أن السلاح الذى يملكه المدنيون يجب أن يسجل فى ملف خاص بذلك، وبسرعة، مع مراعاة معرفة صاحبه من قبل مراكز الأمن فى كل منطقة، وحتمًا بعد ذلك سيتم إصدار قانون ينظم حمل السلاح والشروط الواجب توافرها فيمن يمنح الترخيص. وتنفيذًا لذلك فمن تنطبق عليه الشروط فسيبقى معه سلاحه، ومن لا تنطبق عليه الشروط فسيسحب منه ويعوض حسب تسعيرة رسمية معلنة.
أما من يرغب من ثوارنا فى الانخراط فى جهاز الأمن فيجب أن يتم إعداده وتأهيله وتدريبه على أعلى مستوي، واستجلاب أفضل الكفاءات العالمية لذلك، مع نقل كل الوسائل المتحضرة التى يتعامل بها الأمن فى الدول المتقدمة.
وهناك منزلق خطير وقعت فيه دول شقيقة قبلنا، وهى فكرة الشركات الأمنية، حيث إن لها مخاطرها العديدة وتجاربها السيئة، لذلك لسنا فى حاجة إليها الآن، لكن بعد إقرار الدستور إذا رأت الحكومة الشرعية إنشاء مثل هذه الشركات، فلتعد لذلك قانونًا ينظم عملها من جميع النواحي، وبعد موافقة ممثلى الشعب فى البرلمان يتم إقراره، وحذارِ حذارِ من الشركات الأمنية الآن.
انتهت الأكاذيب والشائعات.. انتهت المخاوف التى كانوا يفتعلونها لبث الفتنة والرعب بيننا، وزالت كل هذه الأباطيل، وظهرت الحقيقة التى رسمها ونفذها رجال ليبيا وثوارها من كل ربوعها، ولكن كل المعلومات تؤكد أن هناك برنامجًا معدًّا بعد سقوط النظام للبدء فى إثارة الفتن بين المناطق والقبائل والتنظيمات المدنية والثورية، وهو ما بدأنا نتحسسه ونراه، من قبل أعوان مازالوا مخلصين للقذافى ولى نعمتهم، علاوة على أصدقاء القذافى ممن لهم القدرة المالية فى الدول المجاورة لنا التى يقيمون فيها، وهم يساهمون بكل سخاء لتنفيذ هذا المخطط.
من هنا علينا أن نتصدى بوعى كامل لهذه المؤامرة، فهى آخر ورقة يلعبون بها، وأملى كبير فى أن شعب ليبيا العظيم سينتصر وسيفسد مخططهم الدنيء هذا.
إن دولة ليبيا الحرة هى الضمانة لكل الشعب بأن يعيش فى أمن وأمان على أرضها الطيبة الأبية، وذلك من خلال دولة حضارية مدنية تتحقق فيها المساوة والعدالة وتصان فيها كرامة الإنسان، وتجسد الديمقراطية من خلال دستور الدولة الحديثة، الذى نستفيد فى وضعه من تجارب كل دول العالم ونتفادى فيه أخطاء من سبقنا من الشعوب التى تزدهر اليوم بحريتها وديمقراطيتها.
الدولة الليبية والمسار الجديد
إن المسار المخطط للدولة الليبية الحديثة يجب أن يرتكز على أسس متينة وبرنامج فاعل ينظم عمل المؤسسات، ويرسم دور الأفراد، التى تكون على رأسها، ويتمثل ذلك فى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى وهى التى بدأت منذ يوم الأحد 23 أكتوبر 2011 منذ لحظة إعلان تحرير أرض ليبيا، حيث سيتم فيها تشكيل حكومة تسيير أعمال وسيستمر المجلس الوطنى الانتقالى يمارس فيها سلطاته فى إدارة شئون البلاد، وهذه الفترة ستمتد إلى 4 أشهر كحد أدني، و8 أشهر كحد أقصى يتم خلالها الإعداد لانتخاب المؤتمر الوطنى الليبيي.
المرحلة الثانية، وهى التى ستبدأ فور اختيار هذا المؤتمر الذى سيتكون من 200 عضو يمثلون 10 محافظات، أى 20 عضوًا عن كل محافظة، على أن تتم هذه الانتخابات تحت الإشراف الدولى والإقليمى والمحلي، ويحدونا أمل كبير بأن يتم اختيار أفضل قياداتنا الوطنية فى هذه الانتخابات.
بعد هذه الانتخابات سيتم تسليم السلطة إلى هذا المؤتمر عوضا عن المجلس الانتقالي، وتكون مهامه تشكيل الحكومة الانتقالية وتكليف لجنة إعداد الدستور ومناقشته، ثم الإشراف مع الحكومة الانتقالية على استفتاء الشعب على مواده.
ولا يتوقف دور المؤتمر الوطنى عند هذا فقط، بل سيقوم بالإشراف على انتخابات الهيئات الدستورية فى الدولة، واتخاذ التدابير والترتيبات اللازمة لانتخابات الرئاسة، ومن ثم تشكيل الحكومة الشرعية، ووضع أسس بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
أما المرحلة الثالثة، فيبدأ العمل الحقيقى فيها بتنفيذ طموحات الشعب الليبى العظيم والتى طالما حلم بها الثوار الشرفاء والمجلس الوطنى الانتقالي، خاصة ما تم إعداده من دراسات وخطط لليبيا المستقبل، والتى تنطلق من تسخير كل الإمكانات المتاحة بهدف تنفيذ عدة برامج طموحة.
أول هذه البرامج بناء الإنسان الليبيي، وتنمية مهاراته من خلال إعادة النظر فى أنظمة التعليم، وبرامج التدريب والتدريب المهني، واستخدام أحدث الأساليب المتطورة لإعادة تأهيل الشباب، بعد الحقبة القذافية التى تمثل قمة الضحالة فى المعلومات والقصور فى الرؤية الاستراتيجية لبناء الفرد من خلال رؤية مجتمعية، تعيد إليه هويته ووعيه كعضو فاعل فى المجتمع.
أما البرنامج الثاني، فيتمثل فى تسخير الموارد الطبيعية والأموال الليبية من أجل تنفيذ برامج استثمارية لرفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين فى مجالات الصحة والمواصلات والتأمينات الاجتماعية وتحقيق أرقى أنواع الخدمات لهم.
ثالثًا الاهتمام بالأسرة، من خلال عدة برامج اجتماعية تكافلية، تسهل على الشباب بناء الأسرة المعاصرة، مثل توفير السكن الملائم، خاصة للشباب المقبل على الزواج وأسر الشهداء والجرحى وتقديم أفضل الخدمات والتسهيلات لهم، علاوة على الاهتمام بالبنية التحتية الملائمة وتحديثها فى كل المدن والقري، الجديدة منها والقديمة.
وتبقى قضية فى غاية من الأهمية، وهى إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، ومع الوضع فى الاعتبار أن المجتمع الليبى مسالم بطبعه، فإنه ليس من الصعب العودة إلى الأصل، من خلال تحديد أولويات الأمن التى تتجسد فى أمن المواطن؛ لأنه المسئول الأول عن أمن الوطن، فأمنه هو -وليس أمن الحاكم- هو الضمانة الأولى لأمن الوطن.
أما سياستنا الخارجية، فستكون مبنية على الاحترام المتبادل والندية فى التعامل، مع الاعتبار بنصرة قضايا أمتنا العربية والإسلامية، وقضايا العدل والحرية والمساواة، وبذلك نكون قد حققنا ما نرجوه من ربيعنا العربي، ليس لليبيا فقط، لكن لكل الشعوب العربية الشقيقة