تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، واحدة من أعنف موجات القتال منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، بعد أن تراجعت خطوط الجيش السوداني أمام هجمات متتالية من مليشيا الدعم السريع (الجنجويد). وتشير تقارير ميدانية إلى وقوع انتهاكات جسيمة ضد المدنيين وعمليات نزوح جماعية نحو المناطق الشرقية والشمالية من دارفور، فيما أعلنت منظمات أممية فقدان الاتصال بفرقها الطبية والإغاثية داخل المدينة. ويُعد مستشفى الفاشر للنساء والولادة – آخر منشأة طبية عاملة – خارج الخدمة تمامًا بعد محاصرته وتعذر وصول الإمدادات.
الاتحاد الإفريقي يندد واليونيسف تدق ناقوس الخطر في أول رد فعل دولي قوي، ندد الاتحاد الإفريقي ب«الفظاعات وجرائم الحرب» المرتكبة في الفاشر، داعيًا إلى وقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين. وجاء في بيان رسمي نقله تلفزيون القاهرة الإخبارية: «إن ما يجري في الفاشر يشكّل تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الإقليميين، وخرقًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني».
من جهتها، طالبت منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسف) بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات دون استثناء، محذّرة من أن أعمال العنف «تهدد حياة أكثر من 130 ألف طفل محاصرين داخل المدينة». وأكدت المنظمة أن استمرار القتال وتعطّل الممرات الإنسانية «قد يدفع الأوضاع نحو كارثة غير مسبوقة في دارفور».
الحكومة السودانية: الفاشر محطة للمراجعة لا للهزيمة في الداخل، حاولت الحكومة السودانية امتصاص صدمة التراجع الميداني بتأكيدات على الصمود وإعادة التموضع العسكري. وقال مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة إن السودان «قد يتعثر، لكنه لا ينكسر»، مضيفًا:«ما بيننا وبين المليشيا جبال جثث وثأر طويل... وسنحوّل الألم إلى قوة من أجل النصر».
أما والي غرب دارفور بحر الدين آدم كرامة فقد اعتبر الفاشر «محطة للمراجعة لا للهزيمة»، مشددًا على أن «المعركة لم تنتهِ، وستُخاض سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا حتى محاسبة الجنجويد على جرائمهم». وقال وزير الإعلام خالد الإعيسر ل«الفجر» إن الحكومة «عازمة على الاستمرار في معركة الكرامة حتى تحرير كامل الأراضي السودانية»، معتبرًا أن «الوضع الحالي أفضل مما كان عليه عند اندلاع الحرب».
الجيش وحركة تمبور: المعركة لم تُحسم الجيش السوداني أكد في بيان أن قواته «ما زالت تسيطر على مواقع إستراتيجية داخل الفاشر»، مشيرًا إلى إعادة تموضع تكتيكي ضمن خطة جديدة لاستنزاف المليشيات. وفي موازاة ذلك، أعلنت حركة تمبور دعمها الكامل للقوات المسلحة، مؤكدة أن المعركة «لن تُقاس بخسارة موقع بل بقدرة الدولة على الصمود». وقالت الحركة في بيانها: «المعركة بين مشروع وطني لبناء الدولة المدنية ومشروع فوضى تدعمه أطراف خارجية».
مأساة إنسانية تتفاقم: نزوح وانقطاع الإمدادات في الجانب الإنساني، وصف موظفون أمميون الوضع في الفاشر بأنه «خارج السيطرة تمامًا». فقد انقطعت الإمدادات الغذائية والطبية منذ أسبوعين، وتوقفت شبكات الاتصالات، فيما نزحت آلاف الأسر سيرًا على الأقدام باتجاه مناطق أكثر أمانًا في شمال كردفان وشرق دارفور. وقال أحد العاملين في منظمات الإغاثة ل«الفجر» عبر اتصال هاتفي: «نحن أمام انهيار كامل للبنية الإنسانية... الناس يختبئون في المدارس والمنازل المهدمة بلا ماء ولا طعام».
وتحذر الأممالمتحدة من أن أكثر من 600 ألف مدني ما زالوا عالقين داخل المدينة، بينهم نساء وأطفال ومسنون، وسط تصاعد القصف العشوائي.
بين الرمزية العسكرية والسياسية يرى مراقبون أن الفاشر لم تكن مجرد مدينة ميدانية، بل رمز سياسي لوجود الدولة في غرب السودان، وسقوطها – ولو مؤقتًا – يعني خسارة رمزية كبيرة للجيش. ويقول محلل عسكري سوداني ل«الفجر»: «الفاشر هي العاصمة التاريخية لدارفور... ومن يسيطر عليها يمتلك ورقة معنوية ضخمة في ميزان الحرب. لذلك المعركة حولها ليست فقط عسكرية، بل صراع على الرمزية والسيادة». وأضاف أن الجيش قد يتجه إلى إعادة التموضع الدفاعي حول المدينة تمهيدًا لهجوم مضاد في الأسابيع المقبلة، بمساندة القوات الجوية ووحدات الاحتياط.
تحذيرات من انزلاق إثني وإقليمي تخشى دوائر حقوقية من أن يتحول الصراع في الفاشر إلى مواجهة ذات طابع قبلي، خاصة مع تصاعد خطاب الثأر والتحريض في البيانات والتصريحات. ويرى محللون أن الخطاب الوطني مطلوب لتعزيز الوحدة، لكن المبالغة في لغة الثأر قد تؤدي إلى تغذية الانقسامات وجرّ المنطقة نحو حرب أهلية طويلة.
المجتمع الدولي يدخل على الخط بالتزامن مع موقف الاتحاد الإفريقي، دعت ألمانيا إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية آمنة، فيما شدد الاتحاد الأوروبي على ضرورة احترام القانون الدولي وحماية المدنيين. وأعربت الأممالمتحدة عن قلقها البالغ من استمرار الحصار المفروض على المدينة، محذّرة من «تداعيات إنسانية كارثية» إذا لم يتم التوصل إلى هدنة عاجلة.
نحو آلية تحقيق ومحاسبة تزايدت الدعوات لتشكيل لجنة وطنية مستقلة لتوثيق الانتهاكات، بإشراف قضائي وبدعم من منظمات دولية. وأكدت منظمات مدنية سودانية أن «العدالة هي الطريق الوحيد لكسر حلقة الثأر»، وأن أي تسوية سياسية لن تصمد دون محاسبة الجناة.
الفاشر.. المدينة التي تختصر مأساة السودان بين نيران القصف وصرخات الأطفال، تظل الفاشر عنوانًا للألم السوداني المتجدد. مدينة دفعت ثمن موقعها ورمزيتها، لكنها لا تزال تقاوم في ذاكرة الناس كرمزٍ للصمود. ورغم تصاعد نذر الحرب والانتقام، فإن كثيرين يرون أن مأساة الفاشر قد تكون نقطة التحول نحو صحوة وطنية جديدة إذا توفرت الإرادة السياسية والإنسانية لإيقاف نزيف البلاد.