تعيش غزة اليوم واحدة من أكثر المراحل دقة في تاريخها المعاصر، إذ تشهد حالة من الفوضى الأمنية والسياسية بعد وقف إطلاق النار وإتمام المرحلة الثانية من اتفاق إنهاء الحرب في أكتوبر 2025، وسط محاولات حماس استعادة قبضتها الأمنية عبر ما وصفه مراقبون ب "سياسة الميليشيا". وتثير موجة الإعدامات الميدانية التي نفذتها الحركة خلال الأسابيع الماضية، تساؤلات حادة حول مدى شرعية هذه الإجراءات قانونيا وسياسيا، ومدى انسجامها مع مبادئ العدالة والحوكمة في مرحلة ما بعد الحرب. بعد وقف إطلاق النار وإتمام المرحلة الثانية من اتفاق إنهاء الحرب في 13 أكتوبر 2025 الإعدامات الميدانية.. بين القانون الدولي والشرعية الفلسطينية وفق تقارير ميدانية وإفادات شهود، نفذت حماس عمليات إعدام ميدانية بحق ما لا يقل عن 32 شخصًا في مناطق مختلفة من غزة، بدعوى "التعاون مع إسرائيل" أو "تهديد الأمن الداخلي". هذه الإعدامات تمت خارج إطار المحاكم الرسمية، ودون وجود محاكمات علنية أو شفافة، وهو ما يضعها في خانة "القتل خارج نطاق القانون" حسب معايير القانون الدولي الإنساني. من الناحية القانونية، تُعتبر الأراضي الفلسطينية — بما فيها قطاع غزة — خاضعة للنظام القضائي الفلسطيني الموحّد، الذي يشترط مصادقة الرئيس الفلسطيني على أي حكم بالإعدام قبل تنفيذه، وفق المادة (109) من القانون الأساسي الفلسطيني. وعليه، فإن أي تنفيذ للحكم دون توقيع الرئيس يعدّ باطلًا دستوريًا، كما يُعد انتهاكًا صارخًا لسلطة القضاء ولصلاحيات الرئاسة. وفي هذا الإطار، أكدت السلطة الفلسطينية مرارًا أن حماس تتجاوز القانون بتطبيقها أحكام إعدام دون الرجوع إلى السلطة الشرعية، كما حدث عام 2016 حين نفذت الحركة إعدامات دون إذن من الرئيس محمود عباس. ويعني ذلك أن ما يجري اليوم في غزة لا يستند إلى أي غطاء قانوني، بل يقوم على منطق القوة العسكرية، لا على شرعية الدولة. البعد السياسي والأمني.. بين تثبيت السيطرة وغياب الدولة منذ وقف إطلاق النار الأخير، تحاول حماس إعادة ترميم سلطتها في المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي. إلا أن عودتها جاءت عبر عمليات ميدانية واشتباكات داخلية مع مجموعات عشائرية وقوى محلية، ما يعكس صراعًا على النفوذ داخل القطاع. وتبدو الحركة اليوم وكأنها تتصرف بعقلية "الميليشيا" التي تسعى لفرض هيبتها بالقوة، لا بعقلية "السلطة السياسية" التي تستند إلى مؤسسات مدنية وقضائية. فإعدام المتهمين ميدانيًا ونشر مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يمثل رسالة مزدوجة: من جهة هي رسالة ترهيب إلى الخصوم والمعارضين، ومن جهة أخرى محاولة لاستعادة الخوف والانضباط الشعبي الذي تراجع بفعل سنوات الحرب والدمار وتدهور المعيشة. ويرى محللون أن هذه السياسة تضع حماس أمام معضلة مركبة: فهي من جهة تريد إثبات أنها ما زالت القوة الحاكمة في غزة، ومن جهة أخرى تفقد ما تبقى من شرعيتها الأخلاقية والسياسية أمام الشارع الفلسطيني والمجتمع الدولي، الذي ينظر بعين القلق إلى انتهاكها المتكرر لحقوق الإنسان. الشرعية بين المقاومة والحكم تأسست حماس كحركة مقاومة إسلامية تستمد مشروعيتها من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لكنّ انتقالها إلى موقع الحكم منذ عام 2007 حمّلها مسؤوليات جديدة تتجاوز البندقية إلى بناء مؤسسات الدولة. ومع مرور الوقت، تآكلت هذه الشرعية بفعل ممارسات داخلية وصراعات سلطوية، حتى أصبحت الحركة اليوم تواجه أزمة هوية بين كونها "حركة مقاومة" و"سلطة أمر واقع". إن اللجوء إلى الإعدامات دون محاكمات عادلة يُظهر أن الحركة لم تستطع بناء منظومة عدالة مستقلة، بل اعتمدت على أدواتها الأمنية لتصفية حسابات سياسية أو فرض النظام بالقوة. وهذا يعكس خللًا بنيويًا في فهمها لدور السلطة: فبدلًا من أن تكون الضبطية القضائية وسيلة لخدمة العدالة، تحولت إلى أداة لترسيخ السيطرة. التداعيات على مستقبل غزة بعد اتفاق إنهاء الحرب 2025 التداعيات على مستقبل غزة بعد اتفاق إنهاء الحرب 2025 اتفاق إنهاء الحرب في غزة لعام 2025 — الذي أُجريت مرحلته الثانية في شرم الشيخ — ينص على تشكيل لجنة فلسطينية مدنية بإشراف دولي لإدارة القطاع، وهو ما قد يحد من سلطة حماس ويضعها أمام اختبار جديد: هل ستتكيف مع واقع الإدارة المشتركة أم ستستمر بسياسة التفرد الأمني؟ الإعدامات الأخيرة تُظهر أن حماس ما زالت تتحرك بعقلية "الردع الميداني" لا بعقلية "الشرعية السياسية". ومع أن بعض الأطراف الدولية — بما في ذلك واشنطن — ألمحت إلى إمكانية منح الحركة تفويضًا مؤقتًا لضبط الأمن، إلا أن سلوكها الأخير يقوّض الثقة بقدرتها على إدارة مرحلة انتقالية قائمة على القانون والمؤسسات. نحو أي مسار تمضي حماس؟ في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الإجراءات التي اتخذتها حماس تفتقر إلى الشرعية القانونية والدستورية، وتتناقض مع مبادئ العدالة التي يفترض أن تحكم أي سلطة سياسية. فالإعدامات الميدانية لا يمكن تبريرها حتى في سياق الحرب، لأنها تكرس منطق "الردع الدموي" بدلًا من العدالة القانونية، وتحوّل الحركة من فصيل سياسي إلى كيان ذي سلوك ميليشياوي. ويبقى السؤال المفتوح في ختام هذه المرحلة: هل ستمارس حماس دورها المقبل بسياسة الميليشيا؟ وهل يمكن للقطاع أن يُحكم من جديد عبر القوة الأمنية لا عبر التوافق الوطني؟ إن مستقبل حكم غزة بعد اتفاق 2025 سيعتمد على قدرة الحركة على التحول من سلطة الأمر الواقع إلى شريك في نظام سياسي مدني خاضع للمساءلة. والعالم ينظر إلى مصير غزَّة القادم في إحدى الحالتين، الشرعية أو الفوضى، فأيُّهما ستسلك حماس، وأيُّهما تنتصر لغة القانون أم لغة السياسة أم لغة السلاح؟