كلنا نقصر فى حق نهر النيل، إن لم نلوثه فنحن نجهله، لا نهتم بمعرفة أسراره وتاريخه، كلنا هذا المواطن المهمل، وأنا واحدة منهم، حين وصلتنى عدة كتب من دور نشر مختلفة، اهتمت كالعادة بالكتب السياسية، ووضعت كتاباً اسمه النيل جانبا، أنهى كتابا وأبدأ فى آخر دون أن تتحرك يدى إلى كتاب النيل، وعندما فعلت اكتشفت أننى كدت أضيع على نفسى متعة الاكتشاف والولوج إلى أعماق نهر النيل والمدن والبشر الذين ارتبطت حياتهم وحضارتهم بالنيل من الفراعنة وحتى ما قبل بناء السدود. خلال هذه الفترة تعلم المصريون وكل المستعمرين احترام غضب النيل وهجومه الضارى فى شكل فيضان وبخله المفاجئ الذى يمحو مدناً ولا يترك لها تاريخاً سوى فى أوراق المؤرخين، ولكن كرمه ساهم فى بناء كل الحضارات التى شهدتها مصر. فى كتابه يقدم الدكتور نزار الصياد الأستاذ بجامعة كاليفورنيا قصة حياة النيل من خلال مدنه ولقاء الحضارات من ضفتى شاطئيه، وقد ورث الصياد عشق النيل من والده الذى كتب مؤلفين عن النيل بالعربية، وقد ترجم كتاب النيل للعربية المهندس عصام الشربينى وأصدرته دار الشروق، وميزة الكتاب أنه يقدم تاريخ النيل ومدنه بلهجة شيقة وفى صورة حكايات تروى تاريخ مصر من خلال منظور النيل وعلاقته بالمدن والحضارات، وبالكتاب لغة شعرية يبدو أن المؤلف ورث عن والده اللهجة الشاعرية الذى ألف ديواناً شعرياً واحداً. 1- سى فى النيل لآلاف السنين كان النيل إلها حتى الطيور والحيوانات المرتبطة به كان لها وضع إلهى مميز، ولا عجب فى ذلك لأن حالة النيل كانت تؤثر على المصريين إما تكتب لهم الحياة أو الموت. أما سر النيل فهو منبعه أو منابعه، فهو أطول الأنهار وربما لذلك استغرق الكشف عن سر النيل مئات بل آلاف السنوات، وقد سيطرت أسطورة أن النيل تكون مصدره من سلسلة جبال ثلجية أطلق عليها (جبال القمر) مسيطرة على المستكشفين لفترة طويلة، ولاشك أن هذه الأسطورة قد أضافت شاعرية أخرى على النيل، لقد اختلط عشق العلم مع الفضول برغبات المستعمرين حتى نجح الثلاثة معا فى اكتشاف منابع النيل. أو بالأحرى اكتشاف الأسرار الكاملة لنهر النيل، وعبر عمره غير نهر النيل مساره أكثر من مرة تمشيا مع الطبيعة حوله، وعمر النيل يترواح ما بين 50000 إلى 70000 عام، أما طوله6825 متراً باحتساب الأفرع، ومما يحسب لأسرة محمد على مؤسس مصر الحديثة أنه شارك واثنين من خلفائه فى البحث عن منابع النيل، تم الكشف عن سر النيل الأزرق فى البداية، بينما بقى سر النيل الأبيض مجهولا حتى عهد محمد على مؤسس مصر الحديثة. 2- لعنة النيل كلنا نعرف لعنة الفراعنة، ولكن الدكتور نزار الصياد يقدم لنا نوعاً جديداً من اللعنات، وهى لعنة النيل، فيرصد موت عدد من أهم المكتشفين لمنابع النيل بطرق صادمة. أحدهم اكتشف بحيرة فكتيوريا وجد مقتولا بالرصاص، والآخر وقع من على سلم بيته، وثالث ماتت زوجته ثم لحق بها بعد مدة بسيطة، وهناك بعض المكتشفين ماتوا من الحسرة والقهر الذى أصابهم من فشل فى اكتشاف منابع النيل، بل إن أحد المكتشفين الكبار مات مقتولا فى السودان، وعلميا فإن إزاحة أسرار منابع النيل هو سلسلة من الجهود البشرية لمختلف الأعراق والحضارات، وقد شاركت امرأة واحدة هى إليزابيث مع زوجها صمويل بيكر فى الاكتشافات، واستطاع الزوجان بيكر الوصول إلى شمال بحيرة البرت، وبعد سلسلة من الرحلات والاكتشافات الجزئية والبعثات من الجمعية الملكية الجغرافية الإنجليزية، استطاع جندى أمريكى حل اللغز المحير حول ارتباط النيل ببحيرة فكتيوريا. 3- دورة حياة المدن خلال رحلة شيقة وجذابة نتعرف على دورة حياة المدن والحضارات التى تحكم النيل فى دورة حياتها، ونكتشف أن المدن كالبشر يدور ويجور عليها الزمن والأحداث، الآن تعتبر سيناء مفتاح الأمن القومى فى الغرب، ولكن خلال الحملات الصليبية على مصر احتلت محافظة دمياط هذه المكانة خاصة فى عهد الملك العادل فقد حصنها بكل وسائل الحماية من حصون وأسلحة، وكانت دمياط مفتاح السلطة على البحر ومن ثم التجارة العالمية فى تلك المنطقة. وحين استولى الصليبيون على مدينة دمياط نتيجة الخيانة، أنشأ الملك الأيوبى الكامل مدينة المنصورة للدفاع عن مصر بعد سقوط دمياط، وقد سماها بهذا الاسم على أمل أن يأتيه النصر، وبالفعل حقق الانتصار الشهير وسجن الملك لويس التاسع فى إحدى بيوت المنصورة، وقادت الملكة شجرة الدر مفاوضات فك أسره هو وقواته مع زوجة لويس التاسع، وانتهت المفاوضات بدفع 800000 فرنك على دفعتين. من المدن التى عاشت لألف عام هى مدينة أو العاصمة الحالية القاهرة، وقد حظيت باسمها نتيجة ارتباط بدء بنائها بظهور نجم أو شهاب فى السماء اسمه القاهر، وطوال حكم الفاطميين كانت القاهرة مدينة السلطان وأهل الحكم والأثرياء، أما بقية المصريين فكانوا يسكنون فى الفسطاط التى كانت العاصمة منذ دخول الإسلام على يد عمرو بن العاص، وكان أفراد الشعب يحتاجون إلى تصريح خاص لدخول القاهرة، ولاشك أن أهم ما بقى من القاهرة الفاطمية هو الجامع الأزهر، وفى ذلك الزمان تعايش المذهبان السنى والشيعى فى سلام، فقد كانت الفسطاط مدينة المذهب السنى بينما كانت القاهرة الفاطمية مدينة المذهب الشيعى، ولكن القاهرة المحصنة بالأسوار فقدت أهميتها فى العهد الأيوبى. 4- مدن منسية تاتا وتانيس ومنف والفرما هى مجرد نماذج لمدن أو عواصم تاريخية شهدت حياة أسطورية ومجداً زال لأسباب متعددة بعضها بسبب غضب النيل بفيضان مدمر أو النيل حول وجهه أو مساره عن هذه المدن، أو أن بخله وشحه جعل أهالى هذه العواصم والمدن العظيمة يتركوها، وفى حالة منف وصف بعض المؤرخين المدينة بقصورها المهجورة حيث تحولت الأسر الفرعونية إلى طيبة (الأقصر) وإن ظلت المدينتان تستخدمان لفترة، إلى أن انتهت منف تماما واختفت من الحياة، ليبدأ مجد طيبة أو الأقصر، والأقصر اسم عربى أطلقه العرب على طيبة لأنها مليئة بالمعابد والأعمدة الشبيهة بالقصور، وقد بدأ الاهتمام بالأقصر بدءاً من حملة نابليون أو بالأحرى بسبب كتاب وصف مصر والذى شمل الكثير من الرسوم والوصف إلى كنوز هذه البقعة من أرض مصر. أما الفرما التى اندثرت فهى الفرما القديمة والتى كانت أقرب مدينة إلى دمياط، ولكن بعد مئات السنين تعود الفرما مرة أخرى ثم سرعان ما يتحول اسمها إلى بورسعيد فى عهد الوالى محمد سعيد الذى بدأ حفر قناة السويس فى عهده. أما مدينة تانيس فقد كانت من المدن المهمة فى عصر الأسرة العشرين من الفراعنة، ويتردد أنه قريبا من هذه المدينة الفانية عثر على تابوت به سيدنا موسى عندما كان طفلا، وقد دفعت تانيس ثمن موجات غضب النيل وفيضاناته مرة بعد مرة، ولعل ذلك هو السبب الرئيسى فى موت مدينة تانيس. 5- قلنا هنبنى السد وإذا كان النيل قد تحكم فى ميلاد ورحيل عدة مدن وعواصم، فإن ترويضه أعلى شأن مدينة لم تكن ذات قيمة كبيرة. فقبل بناء السد، لم تستطع أسوان أن تنافس مدينة الفين (الفيل) فى عهد المملكة القديمة، فقد كانت الفين مركز تجارى مهم لنقل العاج، ولكن بناء السد العالى حول أسوان إلى محافظة تنافس بقية محافظات مصر فى النمو السريع فى حركتى العمران والنمو البشرى، وإذا كانت ضفاف النيل فى كل من دمياط ورشيد والمنصورة قد شهدت مواجهة الحضارة الإسلامية للأوروبية، فإن نيل أسوان شهد تلاقى المصريين بالشعب الروسى أيام الاتحاد السوفيتى خلال بناء السد العالى. أيام قلنا هنبنى ودا إحنا بنينا السد العالى. أكبر السدود حتى الآن والذى حمى مصر من غضب النيل وبخله، ولكننا ننسى حتى الاحتفال بمولده، ولا نتذكر أول يوم تشغيل للسد العظيم، فحظ السد العالى من حظ النيل العظيم، كليهما ينطبق عليه المثل الشعبى (لا كرامة لنبى فى وطنه). من الصعب بالطبع تقديم هذا الكتاب القيم فى هذه المساحة لأن الكتاب يرصد رحلة النيل ومدنه منذ أن أصبح النيل هبة المصريين، أى منذ بدء الخليقة، ولكن من المهم إعادة تأكيد المؤلف أن النيل لم ولن يموت إلا بانتهاء الحياة على الأرض.