هندسة بنها بشبرا تحصل على جائزة الإبداع والتميّز في معرض النقل الذكي والتنقل الكهربائي    وزير الكهرباء يبحث مع رئيس "نورينكو" الصينية مجالات الاستكشاف والتصنيع المرتبط بالمواد النووية    تحرك برلماني بشأن أزمة التعيينات في الطب البيطري    الزراعة: إزالة 274 حالة تعد على الأراضى الزراعية خلال أسبوع    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم الثلاثاء    انفجار ضخم يهز جامعة يابانية ويخلف إصابات    مصر تدعو إلى خفض التصعيد في سوريا وتغليب مسارات التهدئة والحوار    قبل مباراة الليلة، تاريخ مواجهات منتخب تونس ضد أوغندا    مرموش: نحتاج لمثل هذه العقلية في البطولات المجمعة    الداخلية تضبط 484 قضية مخدرات وتنفذ أكثر من 83 ألف حكم قضائى    أجواء شتوية.. الأرصاد تعلن خرائط الأمطار المتوقعة خلال الساعات المقبلة    ضبط صاحب شركة بالإسكندرية لتجارته غير المشروعة بالألعاب النارية والأسلحة    وزير الثقافة يلتقي الفنان خالد الصاوي لبحث إنشاء المركز الدولي للتدريب على فنون المسرح    وزير الأوقاف: «دولة التلاوة» أعاد للقرآن حضوره الجماهيري    لدعم المنظومة الصحية بالدقهلية، الجزار يعلن استلام أجهزة طبية حديثة وماكينات غسيل كلوي جديدة    زيلينسكي: 3 قتلى وعدد من المصابين بقصف روسي على كييف ومقاطعات أخرى    البابا تواضروس يستقبل الأنبا باخوميوس بالمقر البابوي بوادي النطرون    18 يناير أولى جلسات قضية مقتل زوجة على يد زوجها فى المنوفية    الاحتلال الإسرائيلي يواصل خرق اتفاق وقف إطلاق النار بأنحاء متفرقة من غزة    معروف وطه وعاشور يديرون مباراة بوركينا فاسو وغينيا الإستوائية بأمم أفريقيا    عصام عمر يقتحم ملفات الفساد في «عين سحرية»    وزير الثقافة يلتقى خالد الصاوى لبحث إنشاء المركز الدولى للتدريب على فنون المسرح    قافلة المساعدات ال100 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    بالفيديو.. الحمصاني: منظومة التأمين الصحي الشامل وحياة كريمة تمسان الخدمات الأساسية للمواطنين    وزيرة التخطيط تعقد جلسة مباحثات مع وزير الاقتصاد الأرميني لمناقشة الشراكة الاقتصادية بين البلدين    نشرة مرور "الفجر".. كثافات مرورية متحركة بطرق ومحاور القاهرة والجيزة    قرار النيابة الإدارية بشأن مديرى مدرسة حالى وسابق فى واقعة التعدى على تلميذة    أسعار السمك اليوم الثلاثاء 23-12-2025 في محافظة الأقصر    وائل القباني: هجوم منتخب مصر الأقوى.. والتكتيك سيتغير أمام جنوب إفريقيا    بعد وفاة الطفل يوسف| النيابة تحيل رئيس وأعضاء اتحاد السباحة للمحاكمة الجنائية العاجلة    قرار جمهوري بتشكيل مجلس إدارة البنك المركزي برئاسة حسن عبد الله    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 23-12-2025 في محافظة قنا    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 23ديسمبر 2025 فى المنيا    أوكرانيا: مقتل وإصابة 1420 عسكريا روسيا خلال 24 ساعة    رئيس الوزراء: مبادرة «حياة كريمة» أكبر مشروعات القرن الحادي والعشرين    وزير الصحة يناقش مع مدير المركز الأفريقي للأمراض تطوير آليات الاستجابة السريعة للتحديات الصحية الطارئة    اليوم.. نظر استئناف المتهم بقتل مالك قهوة أسوان على حكم إعدامه    قائد الجيش الثاني الميداني: لن نسمح بأي تهديد يمس الحدود المصرية    خطوات التصالح في سرقة الكهرباء    بدء الصمت الانتخابي في إعادة انتخابات النواب بالدوائر ال19 الملغاة    نظر محاكمة 89 متهما بخلية هيكل الإخوان.. اليوم    إدارة ترامب توقع اتفاقيات صحية مع 9 دول أفريقية    المخرجة إنعام محمد علي تكشف كواليس زواج أم كلثوم والجدل حول تدخينها    أحمد التهامي يحتفل بفوز منتخب الفراعنة ويُوجه رسالة ل محمد صلاح    إلهام شاهين تتصدر جوجل وتخطف قلوب جمهورها برسائل إنسانية وصور عفوية    مشروع قومى للغة العربية    مواطن يستغيث من رفض المستشفي الجامعي طفل حرارته عاليه دون شهادة ميلاده بالمنوفية    بيسكوف: لا أعرف ما الذي قصده فانس بكلمة "اختراق" في مفاوضات أوكرانيا    «المستشفيات التعليمية» تعلن نجاح معهد الرمد والسمع في الحصول على اعتماد «جهار»    حسام حسن: حدث ما توقعته «صعبنا الأمور على أنفسنا أمام زيمبابوي»    فرقة سوهاج للفنون الشعبية تختتم فعاليات اليوم الثالث للمهرجان القومي للتحطيب بالأقصر    حماية القلب وتعزيز المناعة.. فوائد تناول السبانخ    منتخب مصر يتفوق بصعوبة على زيمبابوي 2-1 في افتتاح البطولة الأفريقية    القانون يضع ضوابط تقديم طلب اللجوء إلى مصر.. تفاصيل    ما هي أسباب عدم قبول طلب اللجوء إلى مصر؟.. القانون يجيب    رمضان عبدالمعز: دعوة المظلوم لا تُرد    قصة قصيرة ..بدران والهلباوى ..بقلم ..القاص : على صلاح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي لقوله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله} الآية 40 من سورة التوبة
نشر في الفجر يوم 18 - 03 - 2020


تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 40 من سورة التوبة
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}
ووقف المستشرقون عند قول الحق سبحانه: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} وكعادتهم- كمشككين في الإسلام- نجدهم يبذلون جهداً كبيراً في محاولة التصيد لأخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم فيقولون: إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون لا تُمكِّن أذهانكم من الجراءة اللازمة للبحث في أساليبه؛ لتكتشفوا ما فيه من الخلل. ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي لا قداسة له سوف تجدون فيه التضارب والاختلاف.
وخصص المستشرقون باباً كبيراً للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم، وجاءوا إلى مسألة الشرط والجزاء، ومن يقرأ نقدهم يتعرف فوراً على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة العربية، ولا يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم، وقالوا: إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي وجود جواب لكل شرط، فإن قلت: إن جاءك زيد فأكرمه، تجد الإكرام يأتي بعد مجيء زيد، وإن قلت: إن تذاكر تنجح، فالنجاح يأتي بعد المذاكرة. إذن: فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط.
وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن. ونقول لهم: إن كلامكم عن الشرط وجوابه صحيح، ولكن افهموا الزائد، فحين نحقق في الأمر نجد أن الجواب سبب في الشرط؛ لأنك حين تقول: إن تذاكر تنجح، فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر، بل لابد أن يتصور الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة، إذن: فالجواب سبب دافع في الشرط، ولكن الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع، فتصُّور النجاح أولاً هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق النجاح، وهكذا تكون الجهة منفكة؛ لأن هذا سبب دافع، وهذا سبب واقع.
وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} فعل مضارع، زمنه هو الزمن الحالي، ولكن الحق يتبع المضارع بفعل ماضٍ هو: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} فهل يكون الشرط حاضراً ومستقبلاً، والجواب ماضياً؟ ونقول: إن المعنى: إلا تنصروه فسينصره الله. بدليل أنه قد نصره قبل ذلك. وهذا ليس جواب شرط، وإنما دليل الجواب، فحين يكون دليل الجواب ماضياً، فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب، فحين دعاهم الله لينفروا فتثاقلوا، أوضح لهم سبحانه: أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمداً وينصر دعوته؟ لا؛ لأنه سبحانه قادر على نصره، والدليل على ذلك أن الله قد نصره من قبل في مواطن كثيرة، وأهم موطن هو النصر في الهجرة، وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على قريش وكل كفار مكة، وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها، إذن: فسابقة النصر من الله لرسوله سابقة ماضية، وعلى ذلك فليست هي الجواب، بل هي دليل الجواب.
ونرى في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أن نصر الله له ثلاثة أزمنة، ف {إِذْ} تكررت ثلاث مرات، فسبحانه يقول: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي: أننا أمام ثلاثة أزمنة: زمن الإخراج، وزمن الغار، والزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}، وقد جاء النصر في هذه الأزمنة الثلاثة؛ ساعة الإخراج من مكة، وساعة دخل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، وساعة حديثه مع أبي بكر.
ولسائل أن يسأل: هل أخرج الكفار رسول الله من مكة، أم أن الله هو الذي أخرجه؟ ونقول: إن عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنُّتهم أمام دعوته، كل ذلك اضطره إلى الخروج، ولكن الحق أراد بهذا الخروج هدفاً آخر غير الذي أراده الكفار، فهم أرادوا قتله، وحين خرج ظنوا أن دعوته سوف تختنق بالعزل عن الناس، فأخرجه الله لتنساح الدعوة، وأوضح لهم سبحانه: أنتم تريدون إخراج محمد بتعنتكم معه، وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولاً، وسأخرجه أنا مدعوماً بالأنصار. وقالوا: إن الهجرة توأم البعثة. أي: أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة، بدليل (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، بعد ما حدث له في غار حراء، قال له ورقة: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال ورقة بن نوفل ذلك لرسول الله قبل أن يتثبت من النبوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمُخْرجيَّ هم؟ قال ورقة بن نوفل: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عُودِي).
إذن: فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أول من أعلن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد. ففكرة الهجرة مسبقة مع البعثة؛ ولأن البعثة هي الصيحة التي دوَّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة. ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا: استضعف قوماً فصاح فيهم، ولكن صيحة البلاغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها، فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه الدعوة. وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ينصره بقريش في مكة؛ لأن قريشاً ألفَتْ السيادة على العرب، فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى الإسلام، لقال من أرسِلَ فيهم: لقد تعصبتْ له قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية. فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا: لا. لقد كانت الصيحة الأولى في آذان سادة العرب، ولابد أن يكون نصر الإسلام والانسياح الديني لا من هذه البلدة بل من بلد آخر؛ حتى لا يقال: إن العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن الإيمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويلاحظ في أمر الهجرة أن فعلها (هاجر). وهذا يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، وإنما هاجر، والمهاجرة مفاعلة من جانبين، فكأن قومه أعنتوه فخرج، والإخراج نفسه فيه نصر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وحده من بيته؛ الذي أحاط به شباب أقوياء من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد، وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينتظره في الخارج، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لهم أنهم لن ينالوا من محمد؛ لا بتآمر خفي، ولا بتساند علني. وهذا نصر من الله.
ويتابع الحق سبحانه: {إِذْ هُمَا فِي الغار}، ويتأكد في الغار نصر آخر. ذلك أن قصاص الأثر الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الأثر حتى جاء عند الغار، وقال: هذه محمد وهو اشبه بالموجود في الكعبة، أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام، ثم قال: هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجتوزا هذا المكان. وكان قصاص الأثر يتعرف على شكل القدم وأثره على الأرض. وأضاف: إنهما ما تجاوزا هذا المكان، إلا أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو دخلا في جوف الأرض. وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار، ولم يفكر أحدهم أن يقلب الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه، مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن، فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك.
وجاء واحد منهم وأخذ يبول، فجاء بعورته قبالة الغار، وهذا هو السبب في قول أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لأو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنة النبوة: لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم وهذا دليل على أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته، أو هي كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم ألا يُريه عورة غيره، وليأخذها القارىء كما يأخذها، وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار، وجعل الحمام يبني عُشَّاً فيه بيض، وجعل سراقة بن مالك يقول: لا يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخلا الغار، وإلا لكانا قد حطَّما عُشَّ الحمام، وهتكا نسيج العنكبوت.
ونحن نعلم أن أوهى البيوت هو بيت العنكبوت، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في: أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهى البيوت، وهو بيت العنكبوت، وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من الفولاذ، وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور، وإنْ أهيجَ هاج.
وهذا نصر، ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي، فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر؛ لأن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ في الغار، وكان الرد الطبيعي أن يقال: (لن يرونا) ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللازم الأعلى، فقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، لأنه ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في معية الله، والله لا تدركه الأبصار؛ فمن في معيته لا تدركه الأبصار.
وتكون كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعوَّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول، تكون هي الحجة على صدق ما قال، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أسْرى به إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء، قال أبو بكر: إن كان قد قال فقد صدق. فحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فيما يحكيه سبحانه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}، فلابد أن يذهب الحزن عن أبي بكر، وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوباً، خشي أن يكون فيها حيات، أو ثعابين، فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب؛ حتى لم يَبْقَ من الثوب إلا ما يستر العورة، فسدَّ الثقوب الباقية بيده وكعبه.
إذن: فأبو بكر يريد أن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه إن حدث شيء لأبي بكر فهو صحابي، أما إن حدث مكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالدعوة كلها تُهدم. إذن: فأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان، ولكنه حزن خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصَابَ بمكروه.
ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} اختلف العلماء في قوله تعالى: {عَلَيْهِ}، هل المقصود بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو أن المقصود بها أبو بكر؟ وما دامت السكينة قد نزلت؛ فلابد أنه نزلت على قلب أصابه الحزن. ولكن العلماء يقولون: إى الضمائر في الآيات تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحق قال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أي محمداً عليه الصلاة والسلام، وسبحانه يقول: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقول أيضاً: {إِذْ أَخْرَجَه} أي محمداً صلى الله عليه وسلم، فكل الضمائر في الآية عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إذن: فلابد أن يعود الضمير هنا أيضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: ولكن لماذا لا نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ يَقُولُ لصاحبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} وهذا قول رسول الله؛ ولابد أن قوله يجعل السكينة تنزل على قلب أبي بكر. إذن: فالضمير هنا عائد على أبي بكر.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} والعنكبوت والحمام مرئيان، وأول الجنود غير المرئية هو أنه لم يخطر على بال القوم ولا فكرهم أن ينظروا في الغار، مع أن آثار الأقدام انتهت إليه. لكن الله طمس على قلوبهم وصرفهم عن هذه الفكرة بالذات، ولم تخطر على بالهم. ثم جاء حدث آخر حين استطاع سراقة بن مالك وهو من الكفار أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما في طريقهما إلى المدينة، وكلما حاول الاقتراب منهما ابتلعت الأرض قوائم فرسه في الرمال، وعلى أية حال ما دام الحق سبحانه وتعالى قال: {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وقال في آية أخرى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
إذن: فالجنود الذين سخرهم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليحفظوه خلال الهجرة لا يعلمهم إلا الله. وكل شيء في هذا الكون من جنود الله؛ فهو سبحانه وتعالى الذي سخر الكافر لخدمة الإيمان، ألم يكن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة هو عبد الله بن أريقط، وكان ما زال على الكفر، فكأن الله سبحانه وتعالى يسخر له الكافر ليكون دليله في رحلته من مكة إلى المدينة. وهكذا عمل الكافر في خدمة الإيمان، وفي الوقت نفسه فكل ما رصدتْه قريش من جُعل لمن يدلُّها على مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُغْرِ الدليل الكافر بالخيانة، بل أدخل الله على قلب الكافر ما يجعله أميناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحق سبحانه يقول: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى}، ولقد أراد الكفار القضاء على الدعوة بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نَفْيه بإخراجه إلى مكان بعيد، أو سجنه، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن الباطل لا يمكن أن يعلو على الحق، وأن الحق دائماً هو الأعلى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} ولا يجعل الله كلمة الكفار السفلى إلا إذا كانت في وقت ما في عُلُوٍّ.
وإن كان عُلوها هو علو الزَّبَدِ على الماء الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].
ولقد ضرب الله هذا المثل فقال: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].
أي: أن كل وادِ أخذ ما قدره الله له من الماء. {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17].
وهذا نلاحظه عندما يحدث سيل، ونجده يأخذ معه القَشَّ والقاذورات التي لها كثافة قليلة؛ لتطفو على سطح الماء، ولكن أتظل عليه؟. لا، بل تُطرد إلى الجوانب بقوة التيار ويبقى الماء نظيفاً. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن كلمة الكفار كانت في عُلُوٍّ كالزَّبَد، ولكن: لماذا أوجد الله علواً ولو مؤقتاً للكفر؟ أراد الحق ذلك حتى إذا جاء الإسلام وانتصر على الكفر يكون قد انتصر على شيء عال فيجعله أسفل؛ ولذلك جاء الله سبحانه وتعالى بالمقابل وقال: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}، فالنسق الأدائي في القرآن كان لابد أن يتم على أساس؛ لذلك جاء القول: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}؛ لأن كلمة الله دائماً وأبداً هي العليا، وليست كلمة الله عُلْيَا جَعْلاً، فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا وهي العليا. ولهذا لم يعطفها بالنصب؛ لأن كلمة الحق سبحانه وتعالى هي العليا دائماً وأبداً وأزلاً.
وإن كان الكفار قد أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يخرجوه إلى مكان بعيد لا يستطيع فيه أن يمارس دعوته، أو يحبسوه، فإنهم لم يظفروا بشيء من هذا؛ لأن الله عزيز لا يُغلَبُ، وعِزَّته مبنية على الحكمة.
وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت المؤمنين إلى أن تثاقلهم عن الجهاد في غزوة تبوك لن يضر الدعوة شيئاً؛ لأن الله قد نصر رسوله وهو وحده، ونصره بجنود لم يَرَوْهَا، فإذا كان النصر لا يحتاج إلا لكلمة الله، ولا يتم إلا بإرادة الله، فلماذا إذن التثاقل؟
ويقول سبحانه بعد ذلك: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وجاهدوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله...}.
تفسير سورة التوبة للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 40 من سورة التوبة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.