من رحمة الله عز وجل بنا أنه وهبنا عقلاً . وأمرنا أن نتدبر به ونتأمل سننه الكونية . ونُعمل الأسبابَ فيها . وسؤالنا هنا : هل السنن الكونية تحابي أحداً علي أحد؟ لا . إذن فلا بد من الأخذ بالأسباب . فإذا تعذرت الأسباب وجب أن نجتهد وأن نبذل الوسع . وهذا يدفعنا إلي ان نتساءل : كيف كان طريق الهجرة؟ النبي قد اتخذ طريقًا مخالفًا للطريق المعتاد الذي تذهب فيه قريش إلي المدينة وهو شمال مكة . واتخذ طريقًا عكسيًا . وهو جنوبمكة . وكان في مشيته صلي الله عليه وسلم يمشي بالتعريج . أي يمينًا تارة ويسارًا تارة أخري . والعلة في ذلك أن لا يراه أحد ويعلم بخروجه ومكانه . وفي أثناء سيره يمر النبي صلي الله عليه وسلم بجبل عُسفان . وسمي بذلك لتعسف السيولُ فيه . ولك هنا أن تتخيل إذا كانت السيول التي لا تقف أمامها شيء تتعسف عند هذا الجبل . فكيف كان يمضي رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ . وحين انتهي رسول الله بعد مشقة الطريق إلي ثور . وبدأ في الصعود إلي هذا الجبل . وهو جبل عال وَعِر . وهو عن يمين مكة علي مسيرة ساعة بمقاييسنا نحن . فخذ الأمر هنا بمقاييس رسول الله في وقته . وبوسيلة المواصلات التي كانت موجودة في عصره . ولنا هنا أن نتساءل عن ارتفاع هذا الجبل . وتكوينه الصلب . وما به من أحجار وغير ذلك . وكيف صعده رسول الله . وهو حافي القدمين؟ مع العلم أن النبي في حالة رصد . أي أن القوم يطلبونه . ومن ثّم . فمشية رسول الله سريعة . وخلفه رصدى يريده . والمطلوب أن يتخفي منهم . وأن يُسرع في صعوده هذا الجبل . وقد قيل أن ارتفاع هذا الجبل يبلغ 759 مترًا . وبه أربع وخمسون تعريجة . وهو طريق حلزوني . لك أن تتخيل شكل هذا الجبل . هذا بالإضافة إلي كثرة الرمال التي تنقلها الرياح نقلاً يتعذر معه بقاء الطريق ممهد أصلاً . نحن إذا سألنا الآن من يصعد هذا الجبل من الناس في عصرنا هذا . سنجده يخبرنا أنه في كل خمس دقائق يأخذ قسطًا من الراحة . وقد تم إعداد الجبل بما يتناسب مع صعوده . أي نقشت السلالم له . وأصبحت ميسرة للصعود عليها . بل وهناك أماكن للراحة أُعدت علي هذا الجبل . هذا كله لم يكن موجودًا علي عهد النبي حينما صعده . فإذا تأملت صعود رسول الله للجبل وعلي أرضه الصلبة وارتفاعه الوعر . دون راحة . لعلمت قوة وتجلد رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك. وبل لك أن تتخيل أن فتحة الغار التي دخل منها رسول الله كان عرضها ثلاثة أشبار في شبرين تقريباً . أي أن من يدخلها لا بد وأن يزحف علي بطنه . ناهيك عن صغر حجم فتحة الدخول . فكيف حدث كل ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قصَّاص الأثر : وها هو كُرْزُ بن عَلْقَمَة "قصَّاص الأثر" . والذي آلت إليه قريش في أن يتقصي أثر أقدام رسول الله وصاحبه أبي بكر . ماذا قال كرز حينما تقصّي آثار أقدام رسول الله؟ وما موقف الكفار من كلامه؟ لقد تتبَّع كُرز بن علقمة الأثر حتي انتهت آثار الأقدام عند الغار . وهنا قال : هذه أثر أقدام محمد . وهو أشبه بالموجود في الكعبة - يقصد أنه أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلام - . ثم قال : وهذه أثر قدم أبي بكر أو قدم ابنه . ثم وضّح في ثقة ويقين وقال : وما تجوّزا هذا المكان إلا أن يكونا قد صعدا إلي السماء أو دخلا في جوف الأرض. هذا هو موقف كُرز بن علقمة في تقصّيه أثر رسول الله وصاحبه أبي بكر . فما هو موقف الكفار من ذلك؟ إنه وبالرغم من هذا التأكيد الذي أكده لهم كُرز . إلا أنهم لم يدخلوا الغار . ولم يخطر ببالهم أن ينظروا فيه . مع أن آثار الأقدام انتهت عنده ولم يفكِّر أحدُهم في أن يَقْلِبَ الحجرَ أو يفتش عن محمد وصاحبه . مع أن هذا هو أول ما كان يجب أن يتبادر إلي الذهن . فما دامت آثار الأقدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله. لكن أحداً لم يلتفت إلي ذلك . وهذا دليل علي أنه قد عميت قلوبهم قبل عقولهم . الكافر في خدمة الإيمان : إذا تساءلنا وقلنا : من كان دليل رسول الله صلي الله عليه وسلم في هجرته؟ ألم يكن هو عبد الله بن أريقط . وكان ما زال علي الكفر . كيف كان عبد الله بن أريقط أمينًا علي رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهو ما زال علي الكفر . وكيف لم يغره الرصد والجائزة العظيمة الذي رصدتها قريش لمن يخبر عن رسول الله؟ ألا يلفتنا هذا إلي أن الله عز وجل بقدرته جعل هذا الكافر أمينًا علي رسول الله . وسخّره في خدمة الإيمان ونبي الإسلام؟ وجعل كلمة الذين كفرو السفلي : لقد أراد الكفار - كما ذكرنا سابقاً - القضاء علي الدعوة بقتل رسول الله صلي الله عليه وسلم . أو نَفْيه بإخراجه إلي مكاني بعيد . أو سجنه . لكن الله عز وجل أراد أن يلفتنا إلي أن الباطل لا يمكن أن يعلو علي الحق . وأن الحقَّ دائماً هو الأعلي ومعني هذا أن الله سبحانه لا يجعل كلمة الكفار السفلي إلا إذا كانت في وقت ما في عُلُو. ولكن: لماذا أوجد الله علواً ولو مؤقتاً للكفر؟ أراد الحق ذلك حتي إذا جاء الإسلام وانتصر علي الكفر يكون قد انتصر علي شيء عال فيجعله أسفل . وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا » لأن كلمة الله دائماً وأبداً هي العليا. وليست كلمة الله عُلْيَا جَعْلاً. فهي لم تكن في أي وقت من الأوقات إلا وهي العليا. ولهذا لم يعطفها بالنصب في سياق الآية » لأن كلمة الحق سبحانه وتعالي هي العليا دائماً وأبداً وأزلاً. صدّ الكفار والمقاتلين بأوهي البيوت : مما هو معلوم لدينا أن أوهي البيوت هو بيت العنكبوت . وذلك كما قال تعالي: "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ " "العنكبوت: 41". والعنكبوت من الجنود التي سخرها الله عز وجل في رحلة الهجرة لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم . فقد نسج خيوطه علي مدخل الغار . ويظهر الإعجاز الإلهي هنا في: أن الله سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين الأقوياء بأوهي البيوت. وهو بيت العنكبوت . وقدرة الله تجلَّتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوي من الفولاذ . وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور . وإنْ أُهيجَ هاج . وهذا في ذاته نصر من الله سبحانه » إذ إنه قد صدّ هؤلاء الكافرين بالرغم من وصولهم إلي مكان رسول الله بأوهي البيوت . وهو بيت العنكبوت . فحين قال أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلي الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا. نجد رسول الله صلي الله عليه وسلم يرد في ثقة بربه: ¢ما ظنك باثنين الله ثالثهما¢.