التوقيت الشتوي،.. نظام يساعد الأطباء على تحسين جودة الخدمة الطبية وتوازن الحياة العملية    جهاز حماية المستهلك: لا توجد زيادة في أسعار السلع بعد تحريك المحروقات    محافظة الجيزة: تركيب شاشات عرض كبيرة في الميادين لنقل حفل افتتاح المتحف المصري الكبير    الجيش الأمريكى يعلن سقوط طائرة إف-18 ومروحية سى هوك فى بحر الصين الجنوبى    الفاشر تشتعل مجددًا.. آخر تطورات الأوضاع في السودان    أمين عام حزب الله يتحدث عن إمكانية اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل    الولايات المتحدة تكثّف وجودها العسكري قرب فنزويلا عبر سفينة حربية جديدة    جيش الاحتلال الإسرائيلى ينسحب من مناطق بحث حماس عن جثث المحتجزين في غزة    لاتسيو يقهر يوفنتوس.. وتعادل مثير بين فيورنتينا وبولونيا في الدوري الإيطالي    عبد الحفيظ: لا أميل لضم لاعب من الزمالك أو بيراميدز إلا إذا..!    وكيله: سيف الجزيري لم يتقدم بشكوى ضد الزمالك    الداخلية تضبط شخصين استغلا مشاجرة بين عائلتين بالمنيا لإثارة الفتنة    من قلب الجيزة إلى أنظار العالم.. المتحف المصري الكبير يستعد لاستقبال زواره الأوائل    شعبة الأدوية: نقص 200 صنف بينها أدوية منقذة للحياة.. وضخ كميات كبيرة قريبًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 في القاهرة والمحافظات    الطب الشرعي يحسم الجدل: «قاتل المنشار» بكامل قواه العقلية    إسرائيل تنسحب من منطقة البحث عن جثث المحتجزين في غزة    اتفاق اللحظة الحرجة.. واشنطن وبكين تقتربان من تهدئة حرب التجارة عبر المعادن النادرة و"تيك توك"    سعر الدولار اليوم الاثنين 27102025 بمحافظة الشرقية    «عائلات تحت القبة».. مقاعد برلمانية ب«الوراثة»    "البلتاجي "على كرسي متحرك بمعتقل بدر 3 ..سر عداء السفاح السيسى لأيقونة يناير وفارس " رابعة"؟    النجم الساحلي يودع الكونفيدرالية ويبتعد عن طريق الزمالك والمصري    مصدر مقرب من علي ماهر ل في الجول: المدرب تلقى عرضا من الاتحاد الليبي    مواعيد مباريات اليوم فى الدورى المصرى    بهدف قاتل ومباغت.. التأمين الإثيوبي يفرض التعادل على بيراميدز بالدور التمهيدي من دوري الأبطال    الزمالك مهدد بالاستبعاد من بطولات إفريقيا لكرة اليد.. الغندور يكشف التفاصيل    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    عاجل - تحديثات الذهب مع بداية الأسبوع.. أسعار المعدن النفيس في مصر اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    وفاة طفلين خلال حريق عقار في أبو النمرس.. تفاصيل    ارتكب 4 جرائم قتل.. قاتل الأم وأبناءها الثلاثة يواجه الإعدام    حالة الطقس في أسيوط الإثنين 27102025    مصرع طالبة بالصف الثالث الاعدادي صدمتها سيارة سرفيس بميدان الشيخ حسن بالفيوم    أسعار طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    برومو ومواعيد عرض مسلسل "كارثة طبيعية" لمحمد سلام على WATCHIT (فيديو)    عمرو أديب: موقع مصر كان وبالا عليها على مدى التاريخ.. اليونان عندها عمودين وبتجذب 35 مليون سائح    ريهام عبد الغفور تطرح بوستر مسلسلها الجديد «سنجل ماذر فاذر»    أكاديمية الفنون تُكرّم اسم الفنان السيد بدير بإعادة عرض «عائلة سعيدة جدًا»    بكلمات مؤثرة.. فريدة سيف النصر تنعي شقيقها    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 27-10-2025 في الشرقية    أنظمة الدفاع الروسية تتصدى لهجمات بطائرات مسيرة استهدفت موسكو    احذري، كثرة تناول طفلك للمقرمشات تدمر صحته    نمط حياة صحي يقلل خطر سرطان الغدة الدرقية    الزبادي اليوناني.. سر العافية في وجبة يومية    علاج سريع وراحة مضمونة.. أفضل طريقة للتخلص من الإسهال    3 أبراج «هيرتاحوا بعد تعب».. ظروفهم ستتحسن ويعيشون مرحلة جديدة أكثر استقرارًا    فرصة ثمينة لكن انتبه لأحلامك.. حظ برج الدلو اليوم 27 أكتوبر    الجمع بين المرتب والمعاش.. التعليم تكشف ضوابط استمرار المعلمين بعد التقاعد    وصلت إلى 350 ألف جنيه.. الشعبة: تراجع كبير في أسعار السيارات (فيديو)    شيخ الأزهر: لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس    شيخ الأزهر: لا سلام في الشرق الأوسط بدون إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس    صحة القليوبية: خروج جميع مصابى حادث انقلاب سيارة بطالبات في كفر شكر    حملة لتحصين الكلاب في فوة ضمن خطة القضاء على مرض السعار بكفر الشيخ    الحسابات الفلكية تكشف موعد بداية شهر رمضان 2026    قيادات حزبية: كلمة الرئيس السيسي جسدت قوة الدولة ونهجها القائم على الوعي والسلام    برلمانية: سأعمل على دعم تطوير التعليم والبحث العلمي بما يواكب رؤية الدولة المصرية    هل رمي الزبالة من السيارة حرام ويعتبر ذنب؟.. أمين الفتوى يجيب    كنز من كنوز الجنة.. خالد الجندي يفسر جملة "حول ولا قوة إلا بالله"    مركز الازهر العالمي للفتوى الإلكترونية ، عن 10 آداب في كيفية معاملة الكبير في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي للآية 12 من سورة المائدة
نشر في الفجر يوم 25 - 07 - 2017

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)}.
يُذَكِّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل. وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} [آل عمران: 81].
أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63].
ويقول سبحانه: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} ولنر (التكتيك) الديني الذي أراده الحق، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛ فاختار سبحانه اثني عشر نقيباً على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط: كيف لا يكون لي نقيب؟. وحسم الله الأمر، ولم يجعله محلاً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيباً منهم. والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية. وساعة نسمع كلمة (نقيب) نعرف أنها من مادة (النون والقاف والباء)، (والنقب) هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب.
إن إختيار الحق لكلمة نقيب، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة. وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب. ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب.
إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد. واختار الحق من كل سبط نقيباً، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين.
ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفاً لإنسان: فلان له مناقب كثيرة، أي أن له فضائل يذكرها الناس، كأنّ على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله، ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ولا يبقى منه شيء.
إذن فكلمة (نقيب) في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق، لذلك تصف الرجل الفاضل: فلان له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر، وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات. ومن نفس المادة (النقاب) أي أن تغطي المرأة وجهها.
وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} يعطيهم خصلة إيمانية، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً، وكما قال الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله. وجاء أيضاً قوله: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ} أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف، ولكن الله يوضح: أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل) أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم، فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ لا؛ لأن الله رقيب. وقوله الحق: {إِنِّي مَعَكُمْ} تدل على أن من ولي أمراً فلابد أن يتابعه ويراه.
وبعد ذلك قال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. و(لئن) تضم شرطاً وقسماً، كأن الحق يقول: وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات. ودلت (اللام) على القسم، ودلت (إن) على الشرط فيه (إن) الشرطية.
والقسم- كما نعلم- يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج إلى جواب أيضاً، فالواحد منا يقول للطالب: إن تذاكر تنجح. والواحد منا يقول: (والله لأفعلن كذا)، و(الله) هي القسم. و(لأفعلن) جواب القسم المؤكد باللام. وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي، وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضاً. ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟ هل يأتي جوابان: جواب للشرط وجواب للقسم؟. عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما، هل هو القسم أو الشرط؟؛ لأن المقدم منهما هو الأهم؛ فيأتي جوابه، ويغني عن جواب الثاني. والمتقدم هنا هو القسم، تماماً مثل قولنا: لئن قام زيد لأقومن، وهنا يكون الجواب جواب القسم، أما إن قلنا: إن قام زيد والله أُكرمْه، فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم. هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح، أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد. وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم *** جواب ما أخّرت فهو مُلْتَزَمْ
وإن تواليا وقَبْلُ ذو خبر *** فالشرط رَجَّحْ مطلقا بلا حَذَرْ
والقسم قد تقدم في هذا الآية، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم، وهو {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
وقوله الحق: {أَقَمْتُمُ الصلاة} يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى، وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به. وبعد ذلك {وَآتَيْتُمُ الزكاة} وفي كتب الفقه نضع الصلاة، والزكاة في باب العبادات. وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات، لكن كل مأمور به من الله عبادة؛ لأن العبادة هي أن تطيع مَن تعبد في كل أمر به، وأن تجتنب ما نهى عنه، فكل أمر إلهي هو عبادة.
وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9].
وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
هنا نجد أمراً تعبدياً أن نترك البيع إلى الصلاة، وأمراً تعبدياً ثانياً أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة، وأي إخلال بالأمرين، إخلال بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركةً تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك.
وقوله الحق: {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعدذ لك لمناقشته، وأن تعزروا الرسل، أي وقرتموهم ونصرتموهم، والعَزْر في اللغة معناه المنع، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو. لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك. فالعزر هو المنع، اي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر. والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم، ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير.
نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون: إن (عزرتموهم) معناها (نصرتموهم)، ومرة أخرى يقولون: إن (عزرتموهم) معناها (منعتموهم). ونقول: كل المعاني هنا ملتقية، فالعزر هو الرد والمنع، إما بمنع العدو عن الرسول، وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو، أو الاثنان معاً، ويجوز أيضا أن يكون معنى (عزرتموهم) هو نصرتموهم. وكذلك يجوز أن يكون معناها (وقرتموهم)؛ لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول.
وبعد ذلك يقول الحق: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً}. ويدبر الحق لنا سياسة المال، سواء للواجد أو لغير القادر، فالواجد يوضح له الحق: لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك، بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك، وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول، والباقي رُدّه على مَن لم يقدر. ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به. ولنذكر جيداً أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1-4].
وحين قال سبحانه: والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل. وهذا هو المقصود بقوله الحق: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4].
أي أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه. وهناك حق آخر في المال غير الزكاة؛ بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله.
والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص، أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة. وهناك القرض، وهو المال الذي تتعلق به النفس، لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده، ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج، ويسأل دون حاجة، وأيضاً لأن نفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة، وكلما قدم نَظِرَةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.
فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير. وكيف يقول سبحانه: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟ وكيف يهب الحق للإنسان النعم، ثم يقول له: أقرضني؟
هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها، فالمال مال الإنسان، ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه، ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضاً من الإنسان لله. ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه: بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا، وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لقد وهب كلاً منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكاً لصاحبها. ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضاً له.
ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه مَنُّ، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا. ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له. واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال. وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو حنيفة بعيداً عن ظل البيت، فسأله صاحب البيت لماذا؟ أجاب أبو حنيفة: خفت أن يكون ذلك لونا من الربا.
فقال صاحب البيت: لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني. فقال أبو حنيفة: كنت أقعد وأنت المتفضل علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال.
والقرض الحسن هو الذي لا يشوبه مَنٌّ أو اذًى أو منفعة؛ ولأن القرض دَيْنٌ، وضع الحق القواعد: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282].
فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لأنه إذا علم أن الدين مكتوب، يحاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليسد هذا الدين، ويستفيد المجتمع من حركته أيضاً.
وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثٌّ عليه. لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف من الظروف ويتناسى القرض؟ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في أي أزمة، فيريد الحق أن يديم الأسباب التي تتداول فيها الحركة، ولذلك يقال في الأمثلة العامية: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. ويكون مال الدنيا كلها معه، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
وفي ذلك حماية للنفس من الأغيار، ولم يمنع الحق الأريحية الإيمانية فقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
وهكذا يحمي الله الحركة الاقتصادية. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بالمؤمنين، وقد بلغه أن واحداً قد مات وعليه دين، فقال للصحابة: صلوا على أخيكم. لكنه لم يصل على الميت. وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول الله على هذا الميت وما ذنبه؟ كأن رسول الله أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلاة، ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس ودَفْعاً لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين. وقال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين.
وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.
{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً}. وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: (أقرضتم الله إقراضا)؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.
وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17].
و(أنبتكم) تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و(أنبت) يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا.
وهكذا قال الله عن القرض: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة (سواء) نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق: {لَيْسُواْ سَوَآءً} [آل عمران: 113].
وسواء معناها وسط، ومتساوون. والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين، ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية. ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيراً من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي.. أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
والشطر هو الجهة. والشطر هو النصف. النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفاً في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق. وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماماً. إذن. فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف. نقول: صدقت.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّداً من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين. وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط. ولذلك قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يميناً فيقع. أو يتجه شمالاً فيقع؛ أو تقع عليه صخرة. ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يميناً أو يساراً واتجه إلى مقصدك. ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55].
وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يميناً أو شمالاً. ويقول الحق من بعد ذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.