* يقول الله تعالى : " فيما تقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبَهم قاسيةً يُحرِّفون الكِلمَ عن مَوَاضِعِه وَنَسُوا حظا مما ذُكرِّوا به " [ المائدة / 13 ] ثم قال في السورة نفسها : " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ " [ المائدة / 41 ] . فما سبب الاختلاف بين الآيتين، أو بالأحرى بين الجملتين اللتين تتحدثان عن تحريف الكلم ؟ لم قال مرة ( عن مواضعه ) ومرة ( من بعد مواضعه ) والسورة واحدة ؟ . في مثل هذه الحالات التي يبدو فيها التشابه بين الآيات قوياً ملحوظاً يحسن بنا أن نعود إلى السياق العام الذي وردت فيه كل من الآيتين : وسنرى أن الآية الأولى نزلت في شأن اليهود الذين حرفوا كلام الله ونقضوا ميثاقه الذي واثقهم به كما دلت عليه الآية السابقة للآية التي بين أيدينا إذ تقول الآية السابقة لها : " وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ " [المائدة/ 12] ومن المعلوم أنهم بعد هذا الميثاق تطاول بهم العهد وهم ينقضون الميثاق يوماً بعد يوم، فلا عبدوا الله، ولا وقّروا رسله بل قتلوهم، ولا أقرضوا الله قرضاً حسنا.. فجاءت الآية التالية مصدرة بالفاء التي تفيد التعقيب وبالباء التي تدل على السببية في قوله (فبما نقضهم ميثاقهم) أي بسبب نقضهم ميثاقهم حلت عليهم اللعنة. وهنا كان لا بد للسياق القرآني أن يستخدم (عن) في قوله (يحرفون الكلم عن مواضعه). لأن (عن) في اللغة العربية موضوعة "لما جاوز الشئ إلى غيره ملاصقاً زمنه لزمنه" أي أن تحريفهم لكلام الله ونقضهم لميثاقه لم ينتظروا به طويلاً، بل حدث هذا منهم قريباً من نزول هذه التعاليم إليهم. فمجاورة زمن التحريف لزمن التكليف وقربه منه جاء بالحرف (عن) للدلالة على تجاور الزمنيين. أما الآية الثانية: "يحرفون الكلم من بعض مواضعه" فقد وردت في سياق آخر يوضحه نص الآية كاملاً. إذ يقول تعالى: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [المائدة / 41] فالسياق الكامل للآية يدل على أنها نزلت في قوم مخصوصين من اليهود على زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تحالفوا مع قوم من المنافقين ممن قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وقد أرسل هؤلاء وفداً للنبي صلى الله عليه وسلميسألونه عن حكم زانٍ محصن، وقالوا للوفد: إن أفتاكم محمد بالجلد فأقيموا الحد، وإن أفتاكم بالرجم فلا ترجموا الزاني. فجملة (إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) وهي مقول قولهم لوفدهم-كما يظهر من الآية- جملة تفسيرية للجملة السابقة عليها: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه" لأنهم فعلوا هذا وعندهم التوراة فيها حكم الله معروف لهم في الجلد والرجم فأنكروه ونصحوا وفد المستفتين نصحاً يخالف ما استقر عندهم من شرع الله. فهنا جاءت (بعد) لتدل على استقرار كلام الله عندهم: أي من بعد طول عهد بهذا الكلام الذي يحرفونه عمداً. لأن (بعد) تفيد استقرار حكم ما بعدها. =========================== * يقول الله تعالى في شأن موسى عليه السلام: " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" [الأعراف/ 107] وقال في موضع آخر: "تهتز كأنها جانّ..." [النمل/ 10] وقد يتوهم بعضهم أن بين الآيتين تناقضاً، وحاشا لله تعالى، فكتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكن سياق الآيتين مختلف. فالآية الأولى جاءت في سياق حوار برزت فيه قمة التحدي بين رسول الله موسى عليه السلام من جهة، وفرعون وسحرته وجنوده من جهة أخرى. وكان سحرة فرعون يسترهبون الناس بتحويل عصيهم إلى ثعابين وحيات تسعى. فأوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه وهي –بقدرة الله تعالى- ستتحول إلى ثعبان عظيم يلقف في جوفه كل ثعابينهم المزعومة. لتكون آيته التي سأله عنها فرعون –في السياق- من جنس آيات سحرة فرعون. أما الآية الأولى فقد وردت في سياق أول حوار وقع بين رب العزة جل شأنه وبين موسى عليه السلام حين ناداه ربه بالوادي المقدس- للمرة الأولى –فكان اهتزاز العصا شديد الوقع على نفس موسى عليه السلام حتى بدت له كما لو كانت جنًّا يهتز. وحين نقرأ الآيات كاملة ندرك مدى الرعب الذي حاق بهذا النبي عليه السلام حين توالت عليه المفاجآت قال تعالى: " فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل : 8 - 10] =============================== * يقول الله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "ما ضلَّ صاحبكم وما غوى" [ النجم/ 2] وقال الله في موضع آخر مخاطباً رسوله الكريم: "ووجدك ضالاً فهدى.." [الضحى/ 7] فكيف نوفق بينهما؟؟ والجواب أن الضلال المراد في سورة النجم هو الضلال في الدين وفي أمور العبادة والنبوة والإخبار عما في الغيب. والغواية بمعنى اتباع الهوى. فالنفي هنا لتأكيد أمانة النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه، وصدقه المُطلق في كل ما يأتي به قومه من أمور الدين الموحاة إليه من ربه. أما الضلال الوارد في سورة الضحى فالمراد به الضلال في شؤون الدنيا المضطربة آنذاك –قبل المبعث- فقد كان محمد عليه السلام يرى قومه –قبل المبعث- على غوايتهم يعبدون الأوثان ويعظمون شأنها. فيحار بين ولائه لقومه، وبين ما تأباه فطرته السليمة من أمور عبادتهم. فتصيبه من ذلك حيرة طال عهدها به حتى كان يلجأ إلى الغار يتأمل السماء والنجوم ويدرك أن لهذا الكون خالقاً أعظم. فعبَّر عن فترة القلق والحيرة تلك بالضلال تشبيهاً لحاله –صلى الله عليه وسلم- أثناءها بحال السائر في الصحراء على غير هدى لا يعلم طريقه. فالضلال هنا غير الضلال هناك. ============================ * قال تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً" [آل عمران/ 144] فكيف يقول (مات أو قتل) مع أنه أخبر في آية أخرى أنه لن يقتل وذلك حيث يقول سبحانه (إنك ميت وإنهم ميتون" [الزمر/ 30] وحيث قال: "والله يعصمك من الناس" [المائدة/ 67] والجواب عن ذلك أن صدق القضية الشرطية لا يتطلب صدق جزأيها، فحين يقول الله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" [الأنبياء/ 22] القضية في أصلها صادقة: أي لو وجدت آلهة أخرى لعم الفساد لكن جزأيها كاذبان فلا آلهة ثم ولا فساد. فليس معنى الآية أن الارتداد على الأعقاب مرتبط بحالتي الموت أو القتل فقط. بل هو واقع لا محالة. وكلمة (إنْ) لا تجري في كلام الله تعالى على ظاهرها بإيراد الشك في علمه تعالى بالوقوع وعدم الوقوع. بل يُحمل الشك على اعتبار حال السامع، أو ما يناسب المقام، وقد وردت (إنْ) هنا –أي في هذه الآية – لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لعظم ما ذكر لهم. وهذا ما مال إليه كثير من المفسرين .