ورابع هذه الأدلة (على تحريف العهد القديم): هي شهادة علماء اليهود أنفسهم .. أولئك الذين تخصصوا في نقد العهد القديم – ومنهم العديد من الحاخامات - .. والذين جمع دراساتهم العالم اليهودي « زالمان شازار » في كتاب عنوانه : ( تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصر الحديث ) .. وهو الكتاب الذي امتلأت فصوله وصفحاته بالشهادات اليهودية القاطعة بأن أسفار العهد القديم إنما هي ثمرة لتراكم تراث شفهي ، تكوّن عبر قرون طويلة ، وعصور مختلفة ، وبيئات متباينة ، وثقافات متمايزة ، ومصادر متعددة ، ومؤلفين مختلفين .. ومن ثم فإِن أغلب هذه الأسفار لا علاقة لها بموسى – عليه السلام – ولا بالبيئة الصحراوية – سيناء – التي نزلت فيها توراة موسى . نعم .. يشهد علماء اليهود أنفسهم – شهادات شهود من أهلها – على أن أسفار العهد القديم هذه هي « ركام من الاختلافات .. والتحريفات » .. فيقولون – على سبيل المثال - : « إِن هذه الأسفار المقدسة هي من طبقات مختلفة ، وعصور متباينة ، ومؤلفين مختلفين ، حيث تستوعب هذه الأسفار ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة من الزمن .. فلا ارتباط بينها ، سواء في أسلوب اللغة أم في طريقة التأليف . إِن القسم الأكبر من توراتنا ، لم يكتب في الصحراء – ( سيناء ) - ، وموسى لم يكتب التوراة كلها .. وأقوال التوراة ليست إِلا لفائف من أماكن وعصور مختلفة لرجال وحكام وعشائر وأسباط مختلفة .. لرجال وحكام وعشائر وأسباط مختلفة .. ففيها ثماني مجموعات تعود إلى عصور مختلفة ، وهي : 1 – لفائف قديمة تعود إِلى عصور الصحراء ( في سيناء ) تم تحريرها من قبل أحد أبناء أفرايم – ( أي في أرض كنعان ) - . 2 – ولفائف من تعاليم الكهنة ، تمت إِضافتها إِليها حتى عصر يوشع بن صادق . 3 – ولفائف أعداد الأسباط . 4 – ولفائف باعترافات الأنبياء . 5 – ومجموعات من روايات بيت داود . 6 – وأقوال الأنبياء ومجموعاتهم في بابل . 7 – وأقوال الكهنة والأنبياء العائدين من السبي . 8 – وتكملات مختارة من عصر الحشمونيين – ( أي القرن الثامن قبل الميلاد ) - . إِن سفر التكوين قد ألّف بعد مئات السنين من استيطان اليهود في فلسطين ، وبعد أن تحصّن في إِرث استيطانهم بزمن طويل ، وإِن مؤلف السفر لم يكن موجودًا على كل حال قبل عصر إِشعيا – ( أي حوالي 734 – 680 ق . م ) . أما بالنسبة لسفري الخروج والعدد ، فإِنهما معالجة ، لأساطير وأشعار قديمة . وإِن الإِصحاحات الثمانية والثمانين الموجودة في التوراة بين أنشودة موسى – الموجودة في سفر الخروج – وحتى الإِصحاح الأخير من سفر العدد – هي في مجموعها ، كتاب أحكام مركب من أجزاء شعرية وتاريخية ، وأحكام وقواعد الكهنة ، وطبيعة الأحداث فيها تستلزم أن تتزايد التغييرات والازدواجيات والتعديلات ، حيث إِن العلاقة بين الأحداث ضعيفة ، ومن الصعب علينا فهمها . وفي الأسفار كانت أقوال موسى قليلة إِلى حد ما . كما أن أقوال داود قليلة في سفر آخر منسوب إِليه .. » (6) . تلك شهادة « شهود من أهلها » .. شهد بها العلماء اليهود الخبراء في علم نقد النصوص .. وفصولها في سفر كامل .. وهي شهادات لا تدع مجالاً للشك بأن أسفار العهد القديم – التي يؤمن بها اليهود والنصارى – لا علاقة لها بتوراة موسى – عليه السلام - .. وأنها ركام من التحريف .. والتلفيق . والتزييف . وإِذا شئنا مثالاً على إِعادة « التفكيك .. والتركيب » التي أحدثتها دراسات هؤلاء العلماء اليهود بهذه الأسفار .. والتي استندت إِلى علم النقد الداخلي للنصوص – فيكفي – مراعاة للمقام – إِيراد النتيجة التي خرجت بها هذه الدراسات – بسفر إِشعيا وغيره والتي تقول : « إِن سفر إِشعيا هو عبارة عن ستة أسفار ، كتبت في أزمنة مختلفة ( عاش إِشعيا الأول في عصر يوثام وآحاز ويحزقيا ، وكتبت الإِصحاح ( 24 – 27 ) في عصر يوشياهو ، وكتب الإِصحاحات ( 34 ، 35 ) مباشرة بعد الخراب ، وكتب الإِصحاحان ( 13 ، 14 ) بعد حزقيال بثلاثين سنة ، وبعد ذلك كتبت فقط العبارات ( 1 – 10 ) من الإِصحاح الحادي والعشرين . وقسم سفر إِرميا إِلى أجزاء مختلفة ووجد في سفر زكريا أقوال ثلاثة أبياء ، أقوال النبي الأول تشمل الإِصحاحات ( 1 – 6 ) وعاش في عصر هوشع ، وتشمل أقوال الثاني الإِصحاحات ( 7 – 12 ) وكان في عصر يهوياقيم وصدقياهو ، وتشمل الإِصحاحات ( 12 – 14 ) أقوال النبي الثالث باستثناء ( 13 : 7 – 19 ) الذي تنبأ بعد العودة من بابل . ويحصى في سفر هوشع نبيين ، تمثل ( الإِصحاحات 1 – 3 ) أقوال الأول ، وتنبأ في عصر مربعام الثاني ، وأقوال الثاني متضمنة في ( الإِصحاحات 4 – 14 ) وكان في عصر تجلات فلاسر وشلمناصر ، وكان آخر الأنبياء في مملكة إِفرايم ، وكان معاصرًا لإِشعيا . ويحدد زمن النبي عويديا بعد الخراب في زمن واحد مع مؤلف الإِصحاحين ( 34 – 35 ) من سفر إِشعيا . وتنسب أسفار الكتابات إِلى زمن الهيكل الثاني . وغالبية المزامير قيلت بعد العودة من بابل ، وبعضها في عصر الحشمونيين . وألف سفر دانيال زمن سلطان المقدنيين – سويًا مع أسفار أخبار الأيام وعزرا ونحميا ، التي كانت في البداية سفرًا واحدًا . وتنسب الإِصحاحات الأولى والأخيرة من سفر الأمثال إِلى ما بعد العودة ( من السبي ) . وتنسب لنفس الفترة المقدمة والخاتمة من سفر أيوب . وينسب سفر الجامعة إِلى عصر هيرودوس ( 3484 – 425 ق . م ) . وورث إِلى عصر الغزو اليوناني . ونشيد الإِنشاد إِلى عصر المقدنيين ، أي خمسين سنة قبل حرب الحشمونيين )) (7) . فهل بعد هذا (( التفكيك .. والتركيب )) لهذه النصوص مجال لقول عاقل إِن لها علاقة بتوراة موسى .. وكلمات الله ؟ ! . وخامس هذه الأدلة : أن القداسة التي أضيفت على أسفار هذا الكتاب (( المقدس )) هي طارئة .. حدثت بعد عصر موسى – عليه السلام – بأكثر من عشرة قرون .. وبعد تدوين « عزرا » لما دون من هذه الأسفار بأربعة قرون .. فلم يكن هناك من يقدس هذه الأسفار قبل عصر المكابيين ( 168 – 37 ق . م ) .. وبعبارة الفيلسوف اليهودي « سبينوزا » ( 1632 – 1677 م ) – وهو من الخبراء في نقد نصوص العهد القديم - : « فإِنه حتى عصر المكابيين لم تكن الأسفار المقدسة قد أقرت ، وإِن حكماء التلمود ( الفرنسيين ) قد اختاروا هذه الأسفار من بين بقية الأسفار ، وذلك زمن الهيكل الثاني ، ثم رتبوها ، ورفعوها لمرتبة الكتابات المقدسة » (8) . أي أن الصورة التي بين أيدينا لأسفار العهد القديم ، وتاريخ تقديسها إنما هو القرن الأول قبل الميلاد – أي بعد موسى – عليه السلام – وتوراته بأكثر من عشرة قرون ! . * * * تلك شهادات الواقع – واقع هذه الأسفار ومضمونها .. وتناقضاتها .. وشهادات علماء اليهود أنفسهم على أنها – في معظمها – تحريف .. وتلفيق .. وتناقضات .. لا علاقة لها بكلمات الله التي أنزلها على موسى عليه السلام . ومن هنا ، فإِن جميع ما جاء في القرآن الكريم عن التوراة ، التي أنزل الله على موسى والتي فيها هدى ونور { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] ، والتي دعا القرآن اليهود إلى إِقامة حكمها : { وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } [ المائدة : 43 ] . فإِن المراد بها توراة موسى – عليه السلام - .. وليست هذه الأسفار التي دُوِّنت بعد موسى بثمانية قرون ، والتي اتخذت شكلها الحالي ، وأضيفت عليها القداسة بعد موسى بأكثر من عشرة قرون . أما هذه الأسفار – التي يؤمن بها اليهود والنصارى – والتي شهد واقعها .. وشهدت تناقضات .. وشهد عليها العلماء الخبراء في نقد نصوصها – من علماء اليهود – فهي التي قال عنها القرآن الكريم : { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 41 ] ، { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ] ، { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ] . * * * بهذا يتضح فساد منهج هذا الكتاب – الذي بين أيدينا – الذي ادعى عدم تحريف التوراة .. وحاول الاستناد في هذه الدعوى إِلى القرآن الكريم – الذي جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتب السماوية – والذي تحدث عن التوراة باعتبارها ذكرًا أنزله الله .. ووصفها بأن فيها هدى ونور . فتوراة موسى – عليه السلام – التي نزلت بالهيروغليفية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد (9) - هي ذكر من عند الله .. وفيها هدى ونور . أما الأسفار التي جمعها وكتبها « عزرا » في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد - .. والتي شكلها الحالي ، وأضيفت عليها القداسة في زمن المكابيين ( 168 – 37 ق . م ) أي بعد موسى وتوراته بأكثر من عشرة قرون – فهي تلك التي قطع القرآن الكريم بأنها ليست كلام الله ، ولا وحيه إلى موسى – عليه السلام - .. وإِنما هي التي كتبها اليهود بأيديهم ، ثم قالوا إِنها من عند الله ليشتروا بهذا الكذب على الله ثمنًا قليلاً ! . ومع القرآن الكريم شهد العلماء الخبراء في نقد النصوص – من اليهود – وفيهم حاخامات كبار – بأن هذه الأسفار إِنما هي تجميع وتلفيق لتراث شفهي أثمرته بيئات وثقافات مختلفة عبر العديد والعديد من القرون . هذا عن التوراة .. والتحريف . هوامش: 6 زالمان شازار – محرر – ( تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصر الحديث ) ص 196 ، 206 ، 214 ، 215 ، 220 – ترجمة : د. أحمد محمد هويدي . تقديم ومراجعة : د. محمد خليفة حسن – طبعة المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة سنة 2000 م . 7 المصدر السابق . ص : 197 ، 198 – من دراسة العالم اليهودي يتس » . 8 المصدر السابق 100 – ولقد كتب « سبينوزا » ذلك في ( رسالة في اللاهوت والسياسة ) الفصل الحادي عشر . 9 انظر للدكتور فؤاد حسنين على كتاب ( التوراة الهيروغليفية ) طبعة دار الكاتب العربي – القاهرة .