أعد الفقيه المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة، ورقة بحثية بمناسبة انعقاد الجمعية العمومية لمجلس الدولة، السبت القادم بعنوان " لحظات تاريخية والثوابت القضائية قبل انعقاد الجمعية العمومية " لاختيار ثلاثة مرشحين لتولى منصب رئيس مجلس الدولة واستعرض فيه كافة الرؤى وأسانيدها" وأوضح "خفاجي" أنه لأول مرة فى التاريخ القضائى سيذهب قضاة المشروعية إلى الجمعية العمومية لاختيار ثلاثة رؤساء وليس رئيساً واحداً بنصوص غير دستورية وما أثقلها على نفس القاضى، فاختيار الجمعية العمومية ظل منذ إنشاء القضاء الإدارى فى مصر حراً طليقاً دون قيود، كأول دولة رائدة فى منطقة الشرق الأوسط تأخذ بذلك النظام فى ظل القضاء المزدوج وليس القضاء الموحد، أما بنصوص القانون رقم 13 لسنة 2017 الذى جار على إرادة الجمعية العمومية فقد أصبح الأمر مقيداً لها باختيار ثلاثة قضاة وليس قاضياً واحداً كما كان . "الفجر" تنشر تلخيص هذه اللحظات التاريخية والثوابت القضائية قبل انعقاد الجمعية العمومية على 3 حلقات :
أولاً : الاختيار من بين أقدم ثلاثة بالترتيب خير أم الاختيار من بين أقدم سبعة دون ترتيب : يقول المستشار الدكتور محمد خفاجى أنه يثور التساؤل حول ما إذا كان اختيار الجمعية العمومية لأقدم ثلاثة بترتيبهم خير أن اختيارهم من بين السبعة دون ترتيب , نوضح فى البداية أن تفسير النصوص التشريعية فى الفكر القانونى الحديث لم يعد قاصراً على المدرسة التقليدية ( التزام النص والشرح على المتون ) وهى التى تقوم على تقديس النصوص بالبحث عن الإرادة الحقيقية للمشرع فإن لم يمكن الوصول إليها تعين البحث عن إرادته المفترضة وهى المدرسة التى تعتمد على التشريع وحده كمصدر وحيد للقانون كما أن الفكر الحديث لم يعد يعتمد فى تفسير النصوص على المدرسة التاريخية والتى قوامها أن النصوص ليست وليدة لإرادة المشرع بل هو وليد البيئة الاجتماعية ينشأ مع المجتمع ويتطور بتطوره ويعتبرون العرف هو المصدر الأمثل للقانون ويعيب عليها أنها لا تتفق مع مبدأ الفصل بين السلطات بالنظر إلى الدور التشريعى الذى يقوم به القاضى لذا يسود فى الفكر الحديث ما يسمى بمدرسة البحث العلمى الحر وهى تقوم على استجلاء الإرادة الحقيقية للمشرع دون الإرادة المفترضة بالرجوع إلى العوامل المختلفة التى تساهم فى خلق القانون وتتشكل من الحقائق العقلية والمثالية والتاريخية والطبيعية مع التقيد بأصول علمية وفنية . ويضيف خفاجى قبل الإجابة على هذا التساؤل ينبغى أن نعرض لمفهوم الأقدمية فى طريقة الاختيار وفقاً لمدلول المادة (83) من قانون مجلس الدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1972 قبل تعديلها فإنه يعين رئيس مجلس الدولة بقرار من رئيس الجمهورية من بين نواب رئيس المجلس بعد أخذ رأى جمعية عمومية خاصة تشكل من رئيس مجلس الدولة ونوابه ووكلائه والمستشارين الذين شغلوا وظيفة مستشار لمدة سنتين ويعتبر تاريخ التعيين من وقت موافقة الجمعية العمومية , وجرى العرف القضائى الراسخ منذ نشأة القضاء على اختيار الأقدم , رغم أن هذا النص تحديداً لم يتحدث مطلقاً عن الأقدمية . ويشرح خفاجى إن الأقدمية راسخة في قانون مجلس الدولة – على عكس ما يتصوره مجلس النواب - الذى تعد نصوصه نسيجاً مترابطاً وكلاً لا يتجزأ وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة لا منفصلة عن بعضها , عبرت عنه المادة (85) من ذلك القانون التى تقضى بأن تعين الأقدمية وفقاً لتاريخ القرار الصادر بالتعيين أو الترقية وإذا عين اثنان أو أكثر فى وقت واحد وفى الدرجة عينها أو رقوا إليها حسبت أقدميته وفقاً لترتيب تعيينهم أو ترقيتهم , كما عبرت عنه كذلك المادة (86) من القانون المذكور التى نصت على أن تشكل الجمعية العمومية لمجلس الدولة من جميع المستشارين ويتولى رياستها رئيس المجلس وعند غيابه يحل محله أقدم الحاضرين من نواب الرئيس ثم من المستشارين. وجاء قمة التعبير عن مفهوم الاقدمية بالمادة (86مكرراً ) من القانون السالف بقولها ينشأ بمجلس الدولة مجلس خاص للشئون الإدارية برئاسة رئيس مجلس الدولة وعضوية أقدم ستة من نواب رئيس المجلس وعند غياب أحدهم أو وجود مانع لديه يحل محله الأقدم فالأقدم من نواب رئيس المجلس. ألا يدل ذلك على أن مفهوم الأقدمية له أصل ثابت في جميع درجات الترقى بمجلس الدولة وفى تشكيل الجمعية العمومية للمجلس وفى تشكيل المجلس الخاص كأعلى سلطة إدارية بالمجلس , فلماذا تهدر تلك الأقدمية في قمة الهرم فينفرط عقدها وتحل الفوضى الخلاقة الذى يريدها من سن هذا النص المعدل محل القيم القضائية الأصيلة . ويشير المستشار خفاجى إلى إن النص المعدل للمادة (83) بالقانون رقم 13 لسنة 2017 جرى على أن يعين رئيس مجلس الدولة بقرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثة من نوابه ترشحهم الجمعية العمومية من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المجلس فهذا النص ظاهره رحمة توسيع الاختيار وباطنه عذاب الفرقة بين الزملاء الأخيار , ذلك أن هذا التخصيص من بين أقدم سبعة لا يعنى اهدار ترتيب الأقدمية بحال ,ولم يضعه المشرع لتنظيم طريقة اختيار الرؤساء بل سنه للفتنة بين الرفقاء , ذلك أنه طبقاً للمنطق القانونى السديد إذا كان النص قبل التعديل قد جعل اختيار رئيس المجلس حراً من بين نوابه دون قيد الأقدمية وقد طبقه رجال مجلس الدولة جيلاً بعد جيل بمعيار الأقدمية فلا يمكن قبول اهدار هذا التراث القضائى حينما يعدل المشرع طريقة الاختيار ويحصره من بين أقدم سبعة من نواب رئيس المجلس وإلا نكون قد شاركنا المشرع في عدوانه على مبدأ الأقدمية , والفرض أن ذلك النص المعدل يعلم جميع قضاة القانون العام في مصر أنه مشوب بعدم الدستورية على الأقل لأن المشرع مايز بين قضاة القانون العام بشقيه الدستورى والإدارى في طريقة اختيار رئيس كل منهما إذ حصن طريقة اختيار رئيس الدستورية بإرادة الجمعية العمومية لتختار هى من بين أقدم ثلاثة وتعرضه على رئيس الجمهورية ليصدر قراراً بتعيينه , أهدر ذلك الاختيار لنظيره بمجلس الدولة بأن نقل سلطة الاختيار من القضاة إلى السلطة التنفيذية وهى التى تقوم في الأصل على تتويج إرادة الجمعية العمومية بإصدار قرار بالتعيين وفقاً لإرادة الجمعية في اختيار رئيس وحيد الدستورية لا التخيير بين اختيار ثلاثة رؤساء كمثل ذلك النص الذى ولد موؤوداً. ويؤكد خفاجى أن صفوة القول فإن استجلاء مراد المشرع ومعانيه مراميه يكون وفقاً للأصول الهادية بالقانون ككل ومن اشاراته ودلالاته والمبادئ الحاكمة والأسس الواردة بالدستور في ظل التنظيم المتكامل والمتماسك الذى صاغته أحكامه نصاً وروحاً وفى جميع الأحوال فإن حسن تطبيق النص من المنظور القضائى وفقاً لمفهوم الأقدمية الوارد بالمواد (85و86و86 مكرراً) وكما استقر عليه العرف القاضى الراسخ المتوج بالنصوص المشار إليها فإنه يجب اختيار أقدم ثلاثة بترتيب الأقدمية والقول بغير ذلك فيه انهدام للبنيان الذى قام عليه مجلس الدولة منذ إنشائه. ثانياً : الأقدمية ليست مجرد ترتيب قضائى لكنها ولاية , هى الهرم المعنوى الذى نفخر به جميعا قبل أن يكون الهرم المادى: ويقول المستشار الدكتور محمد خفاجى فى واقع الأمر فقد ظللت متحيراً بين الذهاب للجمعية العمومية وعدم الذهاب إليها , فلو ذهبت واختارت مع زملائى ثلاثة فسوف انتهك مبدأ الاقدمية واُهدر هذا العرف القضائى الذى صار ثابتاً فى جذور التربة القضائية متوجاً بنصوص قانونية وردت بقانون مجلس الدولة ذاته , وسوف أخرج عن تلك العقيدة التى تربينا عليا عدة عقود -- ما اثقلها على نفس القاضى . ثم يضيف ولو لم اذهب اكون قد تنازلت عن واجبى تجاه المجلس الذى توارثناه عظيماً من أسلافنا العظماء , و قررت أن اقطع هذه الحيرة باليقين وأن أذهب إلى الجمعية العمومية لأطبق نصوص سوداء ظالمة قاهرة وليست قانوناً ولو صدرت فى جريدة رسمية, لأنها نصوص تتصادم مع الضمير العام وضميرى كقاضى وتتعارض مع الاقدمية وتتصادم مع مفهومها ومدلولها ومغزاها وعمق مرماها , إن الاقدمية ليست مجرد ترتيب قضائى لكنها ولاية هى الهرم المعنوى الذى نفخر به جميعا قبل أن يكون الهرم المادى , لذا فأنه من الواجب اختيار ثلاثة وليس واحداً حتى يكون الاختيار طبقاً للقانون , وإلا جاز لرئيس الجمهورية أن يختار من يراه من بين أقدم سبعة . ثالثاً : القول باختيار قاض وحيد هو الأقدم أو الامتناع عن اختيار أى قاض للتعبير عن رفض القانون ليست الوسيلة الصحيحة وتعطى للرئيس الفرصة للاختيار من بين أقدم سبعة : ويتابع: إن القول باختيار قاض وحيد هو الأقدم أو الامتناع عن اختيار أى قاض من بين أقدم سبعة كوسيلة لتعبير الجمعية العمومية للاعتراض على القانون ليست الوسيلة الصحيحة لهذا التعبير لأنها ستعطى للرئيس الفرصة للاختيار من بين أقدم سبعة , فالقضاة لا يمتنعون عن تطبيق نص قانونى أصبح قائماً بحجة تعارضه مع أحكام الدستور لأن هذا الامتناع يشكل فى ذاته تعرضاً لمدى دستورية النص أياً كانت الصورة التى يتم بها هذا التعرض مادام النص التشريعى سارياً ولم يعدل وواجب القضاة إعمال حكمه ومقتضاه دون إهمال أو إغفال , ذلك أن انتقادنا لتشريع نص ما لأن المشرع لم يأخذ بأحسن منه أو لأنه لم يستخدم رخصة التشريع فى أحسن بدائلها لا يجيز الامتناع عن تطبيقه تحت أية ذريعة أو أى سند , لأن وظيفة القضاة المحددة دستورياً هى تطبيق القانون على أى وجه لا تعطيله على أى وجه أيضاً , والسبيل الوحيد للامتناع عن تطبيق القانون رقم 13 لسنة 2017 (قانون ما يستجد من أعمال ) يكون فحسب للمحكمة المختصة تملكه بأدواتها الفنية والتى من بينها احالته للمحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستوريته فتماسكوا وترابطوا فى هذا الامتحان الأصعب فى تاريخ مجلسنا التليد وواجبنا الحفاظ على استقلاله لا المشاركة فى اهداره. ويضيف: "أقول لشباب قضاة مجلس الدولة أقول للظلال الممدودة أقول للطاقات المحشودة أقول للاَمال المنشودة أقول لكم ما في القضاء من شفعة للأحدثين وإن جار القانون على حقوق الأقدمين فأهون علينا إذا قضينا برسوخ قاعدة العدول الأولِين رغم أنف قانون ما يستجد من أعمال المعتدين , وسنختار فيمن نرى الثلاثة الأقدمِين مستهدين بنظائرٍ صار عليها عظيم القضاة الأقومِين , حتى يأذن من مسه ضر باسقاطه من التحصين , فليس له من عمدٍ يرفعه متين , ولا استواءِ به يستعين , بعد عدوانه المشين وبالعدالة يستهين ".