رئيسة الحزب الاشتراكي الألماني تعلن اعتزامها عدم الترشح مجددا لهذا المنصب    البرلمان العربي يوجّه رسائل عاجلة للأمم المتحدة وحقوق الإنسان واليونسيف لإنقاذ أطفال غزة    وفاة سيدة في عملية ولادة قيصرية بعيادة خاصة والنيابة تنتدب الطب الشرعي بسوهاج    ضبط 3 أشخاص تعدوا على طالب بسلاح أبيض فى الجيزة    إعلام عبرى: ويتكوف قدم لحماس مقترحا لصفقة تبدأ بالإفراج عن 10 محتجزين    أول تعليق من هانز فليك بعد اكتساح برشلونة نظيره ريال مدريد في الدوري الإسباني    وفاة المخرج عادل القشيرى.. ونقابة المهن التمثيلية تنعيه    "خارجية النواب" توافق على موازنة اللجنة التنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية    الداخلية تضبط المتهم بالاستعراض بسيارة فى الطريق.. فيديو    تنطلق 22 مايو.. جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي الترم الثاني 2025 محافظة أسيوط    مركز السينما العربية يمنح جائزة الإنجاز النقدي للناقد العراقي عرفان رشيد والقبرصي نينوس ميكيليدس    أمينة الفتوى: لا حرج في استخدام «الكُحل والشامبو الخالي من العطر» في الحج.. والحناء مكروهة لكن غير محرّمة    الاعتماد والرقابة الصحية: القيادة السياسية تضع تطوير القطاع الصحي بسيناء ضمن أولوياتها    بث مباشر.. مدبولي يستقبل 150 شابًا من 80 دولة ضمن النسخة الخامسة من "منحة ناصر"    وزير الخارجية والهجرة يلتقي قيادات وأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي    البترول تنفي وجود تسريب غاز بطريق الواحات.. لا خطر في موقع الحادث السابق    جامعة بنها تطلق أول مهرجان لتحالف جامعات القاهرة الكبرى للفنون الشعبية (صور)    إصابة طالبة سقطت من الطابق الثالث داخل مدرسة فى بشتيل بالجيزة    فى المؤتمر المشترك الأول لكليات ومعاهد الإعلام :الأمية الثقافية تهدد مستقبل الإعلام العربى    وزير الخزانة الأمريكي: أحرزنا تقدمًا ملموسا في المفاوضات التجارية مع الصين    آدم البنّا يطرح أغنية "هنعمل إيه" مع مدين وتامر حسين- فيديو    جيش الاحتلال: نقل لواء المظليين من الجبهة السورية إلى غزة لتوسيع الهجوم    النائب محمد طارق يكشف كواليس إقرار قانون تنظيم الفتوى    الشوط الأول| زد يتقدم على مودرن سبورت بثنائية    الإفتاء توضح كيف يكون قصر الصلاة في الحج    هل هناك حياة أخرى بعد الموت والحساب؟.. أمين الفتوى يُجيب    عالم أزهري يكشف سبب السيطرة على التركة من الأخ الأكبر وحرمان الإخوة من الميراث    هل يخضع زيزو لجلسة تحقيق جديدة بالزمالك؟.. تعرف على التفاصيل    محافظ شمال سيناء يستقبل رئيس الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    محافظ الغربية: إطلاق أكبر قافلة طبية علاجية بمركز قطور    وزير الخارجية الفرنسي: العلاقات مع الجزائر «مجمدة تمامًا»    فرص مفاجئة.. اعرف حظ برج الجوزاء في النصف الثاني من مايو 2025    حملات مكثفة لإزالة الإشغالات والتعديات بمدينة العاشر من رمضان    محافظ أسوان يوجه للإسراع بإستكمال المشروعات المدرجة ضمن خطة الرصف بنسبة 98 %    سقوط مسجل شقى خطر بحوزته 25 كيس أستروكس معدة لتوزيعها بالفيوم    أسئلة تبحث عن إجابات حقيقية    غدا.. رئيس الوزراء اليوناني يلتقي نظيرته الإيطالية في روما    طرح 3 شواطئ بالإسكندرية للإيجار في مزاد علني| التفاصيل والمواعيد    الثلاثاء.. فتحي عبدالوهاب ضيف لميس الحديدي في "كلمة أخيرة"    الصور الأولى من فيلم هيبتا: المناظرة الأخيرة    جنى يسري تتألق وتحرز برونزية بطولة العالم للتايكوندو للناشئين تحت 14 سنة    مصدر مقرب من اللاعب ل في الجول: عمر فايد يرغب باستمرار مشواره الاحترافي    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع سير منظومة العمل بملف التصالح بالمركز التكنولوجي في الواسطى    فتح باب التسجيل للتدريبات الصيفية بمكاتب المحاماة الدولية والبنوك لطلبة جامعة حلوان    خلف الزناتي: تنظيم دورات تدريبية للمعلمين العرب في مصر    انطلاق قافلة دعوية مشتركة بين الأزهر الشريف والأوقاف    المستشار محمود فوزي يرفض مقترحات بحظر النشر في ملف الإيجارات القديمة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ الشرقية يشهد حفل قسم لأعضاء جدد بنقابة الأطباء بالزقازيق    رد حاسم للاتحاد التونسي: هل طلب الأهلي استثناء بن رمضان من معسكر المنتخب؟    الأحوال المدنية تستخرج 32 ألف بطاقة رقم قومي للمواطنين بمحل إقامتهم    خبر في الجول - عمر خضر يقترب من الغياب أمام غانا بسبب الإصابة    تأجيل محاكمة 41 متهم ب "لجان العمليات النوعية بالنزهة" استهدفوا محكمة مصر الجديدة    ارتفاع كميات القمح المحلي الموردة للشون والصوامع بأسيوط إلى 89 ألف طن    محافظ الدقهلية يحيل مدير مستشفى التأمين الصحي بجديلة ونائبه للتحقيق    ماذا يحدث للشرايين والقلب في ارتفاع الحرارة وطرق الوقاية    عاجل- البترول تعلن نتائج تحليل شكاوى البنزين: 5 عينات غير مطابقة وصرف تعويضات للمتضررين    احتدام المنافسة على البقاء بين مصطفى وكوكا.. نانت يتعادل مع أوكسير ولو هافر يخسر من مارسيليا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي للآية 83 من سورة آل عمران
نشر في الفجر يوم 03 - 12 - 2015

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} .
إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء، والتي تقود حتما إلى الضلال، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه، وقال لنا هذا المنهج: أنتم مستخلفون في الكون، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون، سادة يخدمكم الكون كله، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم، الحيوان أقل منكم بالفكر. والنبات أقل من الحيوان بالحس. والجماد أقل من النبات.
إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان، والجماد يخدم الجميع، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان. إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه.
والجماد يخدم النبات.
والجماد والنبات يخدمان الحيوان.
والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كان لابد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى.
هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟
لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك. والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول: (إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون) وبعد ذلك انظر إلى الكون، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته، للحيوان مهمة، وللنبات مهمة، وللجماد مهمة. فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا.
إن الحصان مثلا، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت، لقد أدت الخدمة لك راكبا، وأدت الخدمة لك ناقلا، وما تمردت عليك أبدا. كل الأجناس- إذن- تؤدي مهمتها كما ينبغي، فاستقام الأمر فيها، وما دام الأمر قد استقام فيها، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها، قال لها: (كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا) وفي هذا الأمر عدالة الربوبية، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان.
أرأى أحدكم الشمس مرة قالت: لم يعد الخلق يعجبونني، ولن أشرق عليهم وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال: لا، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي.
أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا.. فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا.
لذلك يقول الحق: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 72-73].
والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل، ولا يستأنس، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد. وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة. بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله، إنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه سبحانه مع عجزك وضعفك.
ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا، وهذا هو عطاء الربوبية، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا. فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية، والربوبية للجميع. أما عطاء الألوهية فهو (افعل ولا تفعل) وهو عطاء للمؤمنين فقط.
فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل (من أين جاء الخلل في الكون؟) إن الخلل قد جاء منك أيها الإنسان. ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا.
أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا.
لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات، وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد.
لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا، بل يجب أن نتدخل في الكون، ولكن بمنهج الله.
إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته، والحيوان مهمته، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك، وهي أن تطيع الله، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في: (افعل كذا ولا تفعل كذا) فإن انتظمت مع المنهج ب (افعل) و(لا تفعل) تكن قد انسجمت مع الكون.
إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها. وإذا ما تساءلنا، وما معنى (طوعا؟) فالإجابة هي طاعة التسخير، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا، وما معنى: (كرها)؟ إن بعضا من العلماء قد قال: إن (طوعا) تشمل أجناس الملائكة، والجماد، والنبات، والحيوان، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان، وأما عن (كرها) فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا، ولهؤلاء نقول: لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحداً من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
فما دام الله لم يكره أحداً على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها، فالكون كله لله، وهو المدبر والقاهر له، قال الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
ومادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان ب (افعل) و(لا تفعل) إذن فالتكليف فرع الإختيار؛ فالمنهج يقول لك: (افعل كذا ولا تفعل كذا) لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به.
إن اليد- مثلا- مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الآمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك- والعياذ بالله- أن يرفع يده فلا يستطيع، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء (افعل) و(لا تفعل).
وعندما يقال لك مثلا: (لا تضرب بها أحداً) فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب، وعندما يقال لك: (خذ بيد العاثر) فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك. ويأتي المنهج ليقول لك: (نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا).
إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق، ويؤدي كل شيء على خير أداء، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج، فيشذ عن الركب في الكون كله، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18].
إنها الأجناس كلها ساجدة، الشمس ساجدة، القمر ساجد، والنجوم، والجبال، كل هذه الجمادات ساجدة، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله، والحيوان والدواب ساجدة لله، وكثير من الناس سجود، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب، ولو أن الإنسان قد أخذ منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس، لكن الإنسان اختلف، وقال: (أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة، لأني عالم وعاقل) كما جاء في القول الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
فلو أخذ الإنسان منهج الله في (افعل) و(لا تفعل)، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام. ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير، ولكنها تعلم شيئا، ويغيب عنها شيء آخر، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها.
إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة. وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون، وجزء آخر يتحول إلى غازات، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها.
إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم. لقد قدّر الإنسان انه يريد تخفيف الحركة، وينقل الأثقال ويختصر المسافات، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها، فنشأ عادم يفسد البيئة، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم.
ولننظر إلى عظمة الحق، إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا. إن الذين اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر، لذلك يقول الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103-105].
إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح. إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان، لماذا؟
لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة، مثل الحشيش اليابس، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات، إن الحيوان لا اختيار له، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع.
وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات.
وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه. وبعض العلماء قد فاتهم ذلك وهم يعطون لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون: (إن دينكم انتشر بإكراه السيف) ولذلك نقول لهم: لا، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار. إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف: (قفوا عند حدكم، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون)، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى. غير الإسلام، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون (إنكم تفرضون جزية).
ونقول لهم: أنتم تردون على أنفسكم، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه.
إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟
نحن نفهمها كالآتي: إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته، وفيه أمور تجدث قهرا عنه، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك: أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك، ولا تستطيع لها دفعا، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟
إن المسخرات كلها مسلمة لله، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها. هو تسليم لله كرها من الإنسان، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟
ولنر ما سيحدث له لابد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه، لابد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه. وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له، ويكره أمورا وتنزل به، ولم يفلت أحد من الإسلام لله، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها، ويصبح خاضعا رغم أنفه، لذلك قال الحق: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.
إذن ولنأخذ (طوعا) لغير الإنسان، وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج، ولنأخذ (كرها) في المسائل التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها، ولا يستطيع دفعها، لأن الذي يجريها عليه هو الخالق الفعال لما يريد، وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها الإنسان أنت مكره فيها فلماذا تمردت في المسألة الاختيارية؟
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر: (لا)، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول: أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى، وهذه رحمة من الله بالخلق.
وحين يسلم الإنسان منهجه لله فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ولا يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن يقف في (افعل) و(لا تفعل)، ونقول له: إذا فعلت ما الذي يستفيده الله منك؟ وإذا لم تفعل ما الذي يضر الله منك؟
لا شيء، إن عليك أن تفكر جيدا فالأمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للآمر فيه مصلحة، وحيث إنه لا مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إلا إصلاح الخلق ذاته، إذن فمنهج الحق هو لمصلحة الإنسان، وأول ما يصاب به من يقف في منهج الله أنه يصبح ضد نفسه، ولا ينسجم مع الكون، فإن كان هناك من يريد ألا يسلم، فليجرب نفسه بألا يسلم في المقهورات التي هو مقهور عليها، وهذا أمر مستحيل.
ولنقرأ الموقف القرآني بدقة، لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الإشهاد عليه، قال لنا: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. إن من يبغي غير دين الله ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لأن الكون كله لله بما فيه ومن فيه من السماوات والأرض، وكذلك الإنسان الذي ارتضى منهج الله، وأيضا أسلم الكافر لله فيما ليس له فيه اختيار.
(وأسلم) في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر، وقُهر على أن ينفذ، ولكن الحق سبحانه أورد عن السماء والأرض قال: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. إن المألوف أن ترضخ السماء والأرض لأمر الله، وعندما (قالتا أتينا طائعين) فقد كسبت السماء والأرض الإسلام لله، فإلى الله كل مرجع فالإنسان- مؤمنا كان أو كافرا- سيعود إلى الله حتما.
وكلمة (يرجعون) التي تأتي في تذييل الآية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة تأتي مبنية للمفعول وننطقها (يُرجعون) بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى الله، ونجدها في مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها {يُرْجَعُونَ}، أي أنهم يريدون الإسراع في العودة إلى الله، وفي هذه الآية نفهم أن الذين يبغون غير دين الله لا يرغبون أن يعودوا إلى الله لذلك يتم إرجاعهم بالقهر، فسبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13].
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.