هبت تلك العاصفة على منطقة الشرق الأوسط, والتى أطلقوا عليها اسم ( الربيع العربي ) رأينا الكثير والكثير ممن سقط مضرجاً فى دماءه , ورأينا من قُتِل وذُبِح وحُرٍق فى أقفاص حديدية . وأصبح مشهد القتل مألوفاً لدى الناس, ومنظر الرؤوس المقطعه صار شيئا عادياً شاهده الجميع فى الفضائيات والإنترنت والصحف .. فتبلدت المشاعر وماتت الأحاسيس, وباتت البشاعة والجريمة تتسلل شيئا فشيئا داخل النفوس, حتى تشربت بها وتعودت عليها.
وكانت الحجة والتبريرات والتكبيرات جاهزة دائما كلما سقط فريق من القتلى , فإذا سقط القتيل من الجيوش والشرطة العربية المسلمة , فالله أكبر فهو كافر مرتد عميل للأنظمة يستحق القتل .. واذا كان القتيل من الجماعات والأحزاب الدينية ,فهو ارهابي متطرف لا حل له سوي القتل، واذا كان القتيل من الشباب الثائر فى الشوارع , فهو مخرب ممول مدفوع الأجر ويستحق القتل .. وهكذا دائما أوجد كل فريق التبريرات والفتاوى التى تجعل من القتل بطولة له , وتصنع من الجثث نصرا , وفتحا عظيما .. فالحمد لله , إن المسلمين قد انتصروا على المسلمين .. وأبشروا , فإن الشعوب العربيه قد هزمت جيوشها العربية وأبادتها , إنه الفتح المبين , فى بلاد المجانين.
وهكذا ظل الحال حتى أتى هذا الحدث الذى أعتبره رسالة سماوية عظيمة وهى مقتل الطفل إيلان .. هذا الطفل السورى المفزوع من جحيم الرصاص العربي , رفضت كندا استقبال أسرته , وحاول أهله الهروب الى اليونان بقارب صغير , فمات ايلان ملقىً على شاطئ من شواطئ تركيا ... إنها رسالة سماوية مبعوثة من الله , لمن يجيد فك شفراتها , وقراءة سطور الأحداث الكونية فيها .. هذا الطفل الذى ينطق جسده الضئيل بالبراءة , ويبدو تعبير جثته وهى ملقاء فى الماء , وكأنه نائم يستريح أثناء رحلة جميلة , حتى أن من ينظر لصورته فقط بلا قراءة للخبر يظن أنه طفل يلعب فى المصيف مع أقرانه ويستمتع باللهو والضحك مع هذا البحر العظيم.
كان وجهه المتجه نحو البحر, وقدمه الصغيرة التى وضعها فى وجوه الكل , رمزا لخيبة الكبار وفشل الرجال , وحقارة إنسان العصر .. لم يستطع أحد تبرير مقتل الطفل إيلان , وفشلت كل الحجج والتبريرات السابقة , وعجزت الفتاوى المذهبية عن أن تجد سببا مقنعاً لموت هذا الصغير البرئ .. فإيلان الرضيع لا ينتمى لأى تنظيم , ولا يعتنق مذهباً , وليس له اهتمام أصلا بأى قضية , سوي أن يضحك ويعيش .
شعر الجميع بالخجل من أنفسهم أمام موته , كل الجماعات والأحزاب الدينية تنصلت من قتله , وراحت تلقى باللوم على الجماعات الأخري .. لم يجدوا فى الدين حجة تبيح قتل الرضيع .. بات جلياً أن من قتل إيلان هو الفتاوى والمرجعيات والتعصب الديني .. حتى فى داخل المجرمين والقتلة تحركت النفس البشرية بفطرتها وامتلات بالحزن العميق على مقتل إيلان .. حكام الدول الأجنبية الكبري والذين ساعدوا وقاموا بتمويل ثورات الربيع العربي , اهتزوا من داخلهم , ورأينا بعضهم يبكي , وهو يري بعينيه نتيجة تخطيطه , وحصاد عمله الاستخباراتي .. إن أطفال هذه الأمة العربية سوف تقذف بهم البحار جثثاً ميتة فى أيدي حكام الشعوب الغربية المرهفين الحس , والذين أيدوا الثورات والانقسامات والحروب فى بلادنا , ونفخوا فى النار , وأشعلوها , تحت شعار ( حقوق الإنسان ).
ها هو الإنسان فى أصدق معانية جثة ملقاة بين أيديهم .. شعر كل إنسان أن إيلان ابنه .. ووضع نفسه مكان أبوه فلعن التعصب , والتقاتل , والمذهبية البغيضة .. لقد دق بموته ناقوس الخطر فى كل مكان .. إن الأطفال الذين بدأوا يموتون بمثل موتة إيلان أصبحوا أعدادا كثيرة جدا , والقادم أشد.. وهذا المصير ليس بعيد من أبناء الكل , والكل بلا استثناء .
ولا أبالغ عندما أقول إن صورة إيلان تستحق أن تكون ( أيقونة ) الربيع العربي .. فقد كشف إيلان بموته زيف الربيع العربي .. لقد فضح بمشهد جثته الراقدة فى براءة كل خطط وأنظمة الدول العظمي , لقد كان فى مصرعه مصرع الفكر القائم على التكفير والتشدد .. فارقد ياولدي فى سلام فقد صنعت بموتك صحوة ضمير .. وأطلقت بصمتك الأبدي صراخ ينطق بمئات الأسئلة .. بأي ذنب قتلت , وهل هذه هي ثمرة الثورات والنزاعات , وهل أتى هذا الربيع المزعوم ليقتل أبناء أمتنا , ويلقى بهم فى عرض البحار وهو يهربون من جحيم الرصاص الطائش , هل أتى هذا الربيع العربي لتحترق العراق وتنقسم اليمن وتنفجر سوريا وتنتهي ليبيا وتشتعل لبنان وتتمزق مصر , بينما تل أبيب تعيش فى سلام ! وهل هو حقا الربيع العربي , أم الربيع الإسرائيلي , وهل هناك أحد سوف يستطيع الإجابة فى يوم من الأيام .. أعتقد ان الطفل إيلان قد أجاب فى رسالته بكل وضوح .