من الهدي الرباني العظيم الذي يتحدث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجلّ (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) آل عمران). يؤكد القرآن الكريم (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) هذه منّة خالصة ليست بسعي منا ولا باجتهاد منا، رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل خالص من الله عز وجل. (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) وجوانب هذه المنة أن الله يبين هذه الجوانب بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما أنا رحمة مهداة". من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على من عليه دين في بداية عهد الإسلام فلما اتسع بيت المال كان يصلي على من عليه دين ويقول صلى الله عليه وسلم: "من ترك دينا فعليّ ومن ترك مالًا فلورثته ألا تقرأون قول الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]" من جوانب هذه المنة أن كل مسلم أصبح من خير أمة أخرجت للناس بانتسابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]. من جوانب هذه المنة الشفاعة التي يحظى بها كل مؤمن بانتسابه للنبي صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة. (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) "من أنفسهم" هذه رحمة عالية من الله عز وجلّ حتى تتيسر الأسوة والقدوة لحضرته صلى الله عليه وسلم. ثم يبين القرآن الوسائل والسبل التي يتم بها تحويل كل ضلال وفساد إلى خير وفلاح ونجاح فيقول (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) هذه الأمة ميزانها في الخيرية على قدر صلتها بالقرآن تلاوة وعلما وأخلاقا وأدبا وعملا وإحياء له في قلوبنا ونفوسنا وأخلاقنا (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) التزكية بالمصطلح المعاصر هي تساوي كلمة التربية فكل التربية وما تحويه من معاني هي التزكية التي يذكرها القرآن الكريم بهذا المصطلح (وَيُزَكِّيهِمْ). والتزكية هي تحويل القيم والمثل النظرية التي وردت في القرآن الكريم والتي وردت في السنة النبوية المطهرية إلى واقع حياتي يكتسب المؤمن بهذه التزكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون في رحاب (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) القلم) يتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم ويتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم. ثم يقول الله عز وجلّ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة النبوية المطهرة وهنا نلحظ شيئا من أهم المهم ويتصل بياتنا المعاصرة أن القرآن يقرن ويجمع بين العلم وبين التزكية، بين العلم وبين التربية وهذا يعني أن الأخلاق ينبغي أن لا تنفصل عن العملية التعليمية وأن العملية التعليمية ينبغي أن لا تنفصل عن الأخلاق وإلا يساء استخدام العلم وما أحوج مدارسنا وما أحوج الجامعات إلى أن تعود الأخلاق قرينة للعلم: التربية والتعليم، التربية هي التزكية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي السنة حين نتبع هذا الهدي فإن النتيجة والثمرة التي يبشرنا بها القرآن أن كل سلبية وكل فساد وكل شر وكل معصية في حياتنا، حياتنا الشخصية، حياتنا على مستوى الأسرة، حياتنا على مستوى المجتمع، الوطن ومستوى الأمة تتحول بدون عنف وبدون صدام تتحول إلى خير ورحمة يقول الله عز وجلّ (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). هكذا يحدثنا القرآن عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كيما نتأسى بهذه القيم، هذه القيم هي التي حولت مجتمع البداوة ومجتمع التخلف ومجتمع الصحراء إلى حضارة خير أمة أخرجت للناس ونلحظ أن القرآن يعلي من قيمة العلم فإن أول آية نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم هي (اقرأ) دعوة للقرآءة لكل ما يتأتى أن ينفع هذه الأمة، ثم إننا نرى أن العلم يجعله القرآن سبب الرفعة وسبب التمكين وسبب العلو فيقول في قرآن الله عز وجلّ (يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11] وكما تبين الآيات أيضًا أن العلم إنما ما أمر الله نبينا صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه الزيادة من شيء في دنيا أو في مال أو نحو ذلك وإنما أمره أن يسأل ربه الزيادة في العلم فقال (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114] البحث والاجتهاد والاكتشاف العلمي إنما هو تكليف قرآني، صناعة الحضارة إنما هي تكليف إيماني يقول ربنا (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت: 20].