كأنه لم تكف الحروب في القرن العشرين حتى يأتي الآن "الطاعون الأبيض" ليؤدي إلى تناقص عدد السكان في صربيا التي ضحى لأجلها الآباء والأجداد بسبب انعدام الأمل في المستقبل ما دفع السكان إلى عدم الرغبة في الإنجاب أو في الهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى أي مكان في العالم. بعد سلسلة الحروب التي خاضتها صربيا في القرن العشرين لأجل "توحيد الصرب" أو "صربيا الكبرى" وصولاً إلى حرب 1999 وما تمخض عنها من دولة معزولة غارقة في المشاكل ومترددة بين الشرق (روسيا) والغرب (الاتحاد الأوروبي) لم تعد الحياة في "الدولة القومية" التي كافح لأجلها الآباء والأجداد مقنعة للأولاد بسبب انعدام الأمل في المستقبل. فظروف الحياة في الريف تدفع الشباب إلى الهجرة إلى المدن للبحث عن العمل والحياة، ما جعل القرى تفرغ بالتدريج من سكانها. وتؤدي الهجرة إلى المدن إلى تزايد التنافس على فرص العمل الضئيلة الموجودة وبالتالي إلى تزايد البطالة في صفوف الشباب المتعلم. وحتى الشباب الذين وجدوا عملاً وأصبحوا خبراء في مجالاتهم يشكون من ضآلة الرواتب ويتطلعون إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية المجاورة (النمسا وألمانيا) التي تستقطب الكفاءات الصربية (أطباء ومهندسون الخ). ونتيجة لهذا الوضع تخسر صربيا جزءاً من سكانها كل سنة بمعدل أصبح مقلقاً حتى أنه دفع الرئيس توميسلاف نيكوليتش إلى التصريح مؤخراً بأن صربيا «تخسر مدينة كل سنة». وفي الواقع أن ما نشره المعهد الجمهوري للإحصاء في شهر كانون الثاني (يناير) المنصرم عن 2013 يدفع للقلق حول مستقبل صربيا. ففي ذلك العام توفي حوالى مئة ألف صربي بينما لم يولد سوى 65 ألف طفل تقريباً، أي أن صربيا تخسر 35 ألف نسمة في كل سنة أو ما يعادل سكان مدينة متوسطة. والمقلق في الأمر أن الريف، الذي يعتبر خزان الاستقرار الديموغرافي، لم يعد يقوم بدوره، حتى أن 1458 قرية لم تسجل فيها أية ولادة في 2013 ويتزايد بذلك عدد القرى التي تصبح خالية أو شبه خالية من السكان. ومن ناحية أخرى تتعرض صربيا إلى نزيف مع هجرة الكفاءات إلى الدول الأوروبية المجاورة نتيجة للبحث عن رواتب أفضل والمزيد من التقدم المهني في مجالات العمل. ففي العقد الأخير فقط هاجر من صربيا أكثر من 146 ألف من ذوى الكفاءات إلى الدول المجاورة، وبخاصة بعد 2010 حين لم يعد الصرب بحاجة إلى تأشيرة سفر إلى دول الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الظروف لا يعود "الكفاح" لأجل "توحيد الصرب" أولوية بل أن الأولوية تصبح للاقتصاد لأجل تأمين استثمارات خارجية تساهم في خلق فرص عمل للشباب المتعلم في المدن وتشجع سكان الريف على البقاء.
الهروب الكبير من جنة الاستقلال وإلى جانب الصرب يعانى جيرانهم الألبان أيضاً من "الطاعون الأبيض" سواء في ألبانيا أو في كوسوفو، الذي أصبح حالة تدعو إلى قلق المجتمع الدولي كما عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في 3 (فبراير) الجاري. فما خسره الألبان في كوسوفو خلال تعسّف حكم ميلوشيفيتش وخلال «حرب التحرير» 1998-1999 نسوه الآن أمام «الهروب الكبير» من الدولة التي فرحوا بها في 1999 واستقلوا بها عن صربيا في 2008. فقد خسرت الدولة حوالى ربع سكانها بعد الاستقلال نتيجة ل"الطاعون الأبيض" الذي تضخم خلال الشهور الأخيرة مع «موت الدولة» كما عبّر عنه المخرج والكاتب الصحافي درادان إسلامي في جريدة "زيري" (عدد 3/2/2015). الأسابيع الأخيرة حفلت بمشاهد بكاء يومية في محطات الباصات في كوسوفو خلال توديع الآلاف الذين يغادرون يومياً إلى بلغراد ومنها يتدبرون أمرهم في شكل شرعي وغير شرعي للانتقال عبر المجر إلى دول الاتحاد الأوروبي حيث يوقفون وينقلون إلى مراكز اللجوء. ويلاحظ أن "الهروب الكبير" من "جنة دولة الاستقلال" لا يشمل الشباب بل يشمل عائلات بكاملها حتى أن جريدة "كوها ديتوره" (عدد 4/2/2015) تتحدث عن هجرة 110 أفراد من أسرة ممتدة تشمل 160 فرداً في متروفيتسا. وإذا استمر الأمر كذلك عدة أسابيع أو عدة شهور من دون تدخل الحكومة أو الاتحاد الأوروبي فكوسوفو مقبلة على مأساة إنسانية تشابه ما حدث في 1998-1999 ولكن بغياب ميلوشيفيتش وحضور "الأبطال" الذين "حرروا" كوسوفو من "الاضطهاد الصربي". فقد كشف شلل المؤسسات والأحزاب الكوسوفية خلال ستة شهور بعد انتخابات حزيران (يونيو) الماضي، حيث بقيت كوسوفو من دون حكومة وبرلمان نتيجة للخلافات والصراعات بين الأحزاب التي تدعي سبقها في "تحرير" كوسوفو، أن كبار المسؤولين الذين اغتنوا على حساب الشعب لم يعد يهمهم كون كوسوفو أفقر دولة أوروبية وأن نسبة البطالة تقارب 50 في المئة مما يهدد ب»انفجار اجتماعي» في الداخل أو انفجار ديموغرافي نحو الخارج. وإذا كان الانفجار الاجتماعي قد حدث في 27 كانون الثاني (يناير) الماضي، حتى أن شوارع بريشتينا أصبحت "تشبه مدن الشرق الأوسط" على حد تعبير وزير الداخلية اسكندر حسيني ، فإن الديموغرافي تسارع أكثر بعد ذلك اليوم إلى حد أن الصحف أصبحت تنشر كل يوم صوراً لمشاهد «الهروب الكبير» في محطات الباصات للذين يغادرون كوسوفو إلى المجهول.
الدور الأمريكي وما زاد الإحباط في وسط النخبة ما كشفته المجلة الأميركية «فورين بوليسي» في عددها الأخير فبراير عن تورط بعض الديبلوماسيين الأمريكيين في تكريس الفساد المحلي عبر تقديم عطاءات ضخمة لشركات أمريكية معينة لأجل مصالحهم الشخصية وليس مصالح بلادهم الاستراتيجية. فصورة الولاياتالمتحدة كانت إيجابية على الدوام بسبب دورها في "تحرير" كوسوفو في 1999 وتأمين الدعم الدولي لاستقلالها في 2008، ولكن هذه الصورة اهتزت قليلاً عندما كشفت «فورين بوليسي» عن أن السفير الأمريكي الأول في كوسوفو كريستوفر دل، الذي كان يتصرف كأنه "الحاكم بأمره" خلال 2009-2012، تفاهم مع رئيس الحكومة هاشم ثاتشي في 2011-2012 على تحويل عطاء ضخم لبناء "أحدث أوتوستراد في أفقر دولة" لشركة "بكتل" الأمريكية من دون الالتزام بمعايير الشفافية والتنافسية. ومع أن البنك الدولي تحفظ على مشروع الأوتوستراد الذي يوصل بريشتينا بالحدود مع ألبانيا لأنه يفوق حاجات وقدرات كوسوفو إلا أن العطاء لأجل الأوتوستراد بطول 77 كيلومتراً رسا على شركة "بكتل"، التي تعتبر الأولى في الولاياتالمتحدة والثالثة في العالم، بمبلغ خيالي وصل إلى 1،300 بليون يورو عندما أنجزته في نهاية 2013. وكانت شركة «بكتل» قد حظيت بعطاء مماثل لأوتوستراد حديث من تيرانا إلى الحدود مع كوسوفو، وتبين الآن مع تحقيق "فورين بوليس" أنها ربحت منه 400 مليون يورو بفضل التفاهم مع حكومة صالح بريشا السابقة (2009-2013). وهكذا عوضاً عن أن توجه هذه البلايين لخلق فرص عمل للشباب ذهبت إلى بناء أوتوسترادات ضخمة لم تكن هناك حاجة ملحة لها، وكانت النتيجة أن ذهبت مئات الملايين من الدولارات إلى جيوب المسؤولين الألبان والأمريكيين.