لا تزال رائحة معركة اليونسكو التى خسرها وزير الثقافة السابق فاروق حسنى تطاردنا، وقتها ساندته الدولة كلها، سخّر مبارك كل ما لديه من علاقات وإمكانات كى يحصل حسنى على المقعد، إلا أن خيانة إحدى الدول الخليجية أفقدته المنصب، ويومها ظهر عوار وعورة النظام، فبعد أن عرف مبارك من حسنى أنه خسر المعركة قال له: ارمى ورا ضهرك.. دون حتى أن يسأله عن أسباب ما جرى، ولم ير فاروق عيبا فى خسارته، وبدلا من أن يستقيل من منصبه كوزير للثقافة أكمل عمله حتى قامت عليه الثورة. إيرينا بوكوفا مدير اليونسكو التى هزمت فاروق حسنى بصوت واحد، ستنتهى فترتها فى العام 2017، ومن المتوقع أن يتم اختيارها كأمين عام للأمم المتحدة، لتكون هى أول امرأة تشغل المنصب، ثم إن أمريكا راضية عنها تماما، فهى السيدة التى أطاعت سيد البيت الأبيض، وهو نفسه السيد الذى يريدها إلى جواره فى الأممالمتحدة، لكن هذه قصة أخرى، خاصة أن قطر تسعى جاهدة للدفع بحمد بن جاسم رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطرى الأسبق ليفوز بالمنصب، فى ظل حالة تطلع من الدوحة لحصد أى منصب دولى، حتى لو كانت لا تستحقه على الإطلاق.
معركة اليونسكو تتجدد فى مصر الآن.. ففى الكواليس السياسية يدور حوار مطول عن المرشح الذى يمكن أن تدفع به مصر فى المعركة القادمة، والتى ستنتهى بدخول مدير جديد لليونسكو فى 2017 خلفا لإيرينا بوكوفا.
أبدت الوزيرة السابقة مشيرة خطاب رغبتها فى الترشح لمنصب مدير اليونسكو، باعتبارها وزيرة سابقة ولها تاريخ سياسى ودبلوماسى طويل، كما أنها تسعى لأن تحصل على منصب دولى تتوج بها تاريخها السياسى.
بالقرب من الدكتورة مشيرة خطاب ظهر اسم الدكتورة فايزة أبوالنجا بقوة، لكن هذا كان قبل توليها منصب مستشار للرئيس للشئون الخارجية والتعاون الدولى، ورغم أن الحديث عن الدفع بها إلى الترشح تراجع قليلا بعد المنصب، إلا أن اسمها لا يزال فى القائمة، فلدى الوزيرة الثورية طموح فى منصب دولى، خاصة أنها كانت مديرة لمكتب أستاذها الدكتور بطرس غالى عندما كان أمينا عاما للأمم المتحدة لمدة خمس سنوات، وسيكون مناسبا أن تكون مرشحة لمصر، لما لها من خبرة دولية.
على مسرح الترشيحات يظهر أيضا اسم الدكتور محمد سامح عمرو، وهو سفير مصر فى اليونسكو ورئيس المكتب التنفيذى للمنظمة الدولية، ومن مصادر مقربة منه، لا يصر على أن يكون الترشيح من نصيبه فقط، بل يستميت فى الحصول عليه، لقربه منه ولمعرفته به، ولتقديره الشخصى أنه الأولى به بعد أن ظل فى المنظمة لسنوات طويلة.
سامح عمرو فى الغالب لن يكون واحدا من المرشحين للمنصب، بعد أن وضعت وزارة الخارجية شروطا واضحة لمن يتم ترشيحه، ومن بينها أن تكون للمرشح صلة بالتعليم والثقافة والتراث، وهو ما يبشر سامح بصلاحيته، لكن الشرط الثانى ليس فى صالحه، فقد رأت الخارجية أن المرشح لابد أن يكون وزيرا سابقا.
إلى جوار هذه الأسماء التى تحتل ساحة المنافسة بقوة، ترددت أسماء أخرى، أعتقد أنها لا تحظى بزخم سياسى أو تاريخ دبلوماسى يؤهلهم للترشح من الأساس، ومن بين هؤلاء الدكتور هانى هلال الذى كان وزيرا للتعليم العالى سنوات مبارك الأخيرة، وكذلك الدكتور فتحى صالح مندوب مصر السابق فى اليونسكو والذى قدم بالفعل خدمات جليلة فى مجال توثيق التراث على مدى العقود الماضية، إلا أن كلاً منهما وبسبب البعد عن العمل العام خلال السنوات الماضية يجعل من ترشحهما أمرا صعبا للغاية.
تنحصر المنافسة إذن بين الهوانم مشيرة خطاب وفايزة أبو النجا.
لكن هناك صعوبات ومعوقات تقف أمام كل منهما.
فالوزيرة مشيرة خطاب سيقف أمام ترشيحها أصوات معارضة سترى أنها كانت واحدة من أعمدة نظام مبارك، وأنها ظلت تخدم فيها حتى نهايته، وعليه فلا يجب أن تمثل مصر فى أى محفل دولى، وسيستند من يرددون ذلك أن السيسى نفسه يقف أمام عودة الوجوه القديمة إلى الساحة السياسية، ورغم أن هذا ليس صحيحا طوال الوقت، إلا أن هذا هو خطاب الرئيس المعلن.
فايزة أبو النجا وبعيدا عن الانتقادات التى طالتها بعد تعيينها مستشارا للسيسى للشئون الخارجية والتعاون الدولى، إلا أن هناك ما يمثل عائقا أكبر أمام طريقها إلى اليونسكو، فعداء الأمريكان لها بسبب موقفها من قضية الجمعيات الأهلية ووقوفها بقوة خطة التمويل الأمريكى لمنظمات المجتمع المدنى بعد ثورة 25 يناير، وكشفها لأهداف التمويل ومن يقف وراءه، كان عاملا مهما فى زرع عداء سياسى وكراهية شخصية لفايزة من قبل المسئولين الأمريكان.
المعركة يمكن أن تكون محصورة بالفعل فى فايزة أبوالنجا ومشيرة خطاب فقط، صحيح أن الخارجية المصرية تميل أكثر إلى الوزيرة مشيرة، فهى الأصغر سنا، ولا توجد مشكلة فى علاقتها بالأمريكان الذين يتدخلون بقوة فى اختيار مدير اليونسكو، وسيكون صعبا جدا أن يوافقوا على فايزة، وهو ما يجعل عدم ترشحها من الأساس أمرا منطقيا، حتى لا يتم استفزاز الأمريكان، إلا أن الأمر لن يتم حسمه فى النهاية إلا بقرار رئاسى، وهنا نأتى إلى دور الرئيس فى هذه المعركة، والتى يتابعها عن بعد حتى الآن، فلم يأخذ فيها قرارا واضحا.
مصادر مقربة من الرئاسة نقلت رأى السيسى المبدئى فى هذه المنافسة، ورغم أنه يبدو غريبا بعض الشىء، إلا أنه فى النهاية منطقى جدا، ويحمل قدرا كبيرا من الواقعية، فهو يرى أن فرص كل المرشحين المصريين فى هذه المرحلة ليست مواتية لنيل المنصب، وذلك بسبب تشدد مواقف الدول المختلفة مما حدث فى مصر فى 30 يونيو، بل إن ترشيح مصرى للمنصب خلال هذه الفترة يمكن أن يكون سببا فى جذب مصر إلى معارك جانبية يتم من خلالها إعادة طرح وتقييم ما جرى خلال الأعوام الماضية.
كلام السيسى ليس معناه أن مصر يمكن أن تتخلى عن ترشيح إحداهما لتولى المنصب، إلا أن القرار لم يحسم بشكل نهائى بعد.. ويمكن أن نرجح أنها ستحسم فى النهاية للوزيرة مشيرة خطاب، فمؤهلاتها فى هذه الظروف هى الأنسب.
الغريب أن قصة مصر مع اليونسكو بدأت مبكرا جدا، وكانت بداية غريبة بعض الشىء، فمنذ خمسة عشر عاما رغب الدكتور إسماعيل سراج الدين الذى كان يحظى بتأييد السيدة سوزان مبارك شخصيا فى الترشح للمنصب، وفى نفس الوقت رشحت المملكة العربية السعودية غازى القصيبى للمنصب، وتحدث الأمير عبدالله الذى كان وقتها لا يزال وليا للعهد مع الرئيس مبارك، وقال له إن غازى كان وزيرا وهو شاعر وكاتب، فوعد مبارك ألا يرشح مصريا للمنصب، وكانت المفارقة أنه تم ترشيح سراج الدين لكن من دولة بوركينافاسو، وخسر الاثنان المنصب. الترشح لا تزال أمامه شهور، لكن مصر مطالبة بأن تحسم أمرها، ومن يدرى فقد تختلف الظروف الدولية، ويصبح من المناسب أن يقود مصرى المؤسسة الدولية خلال السنوات القادمة.