متدين ويخاف من الحسد ولا يهتم بالمظاهر وقوته فى صوته بالحسابات السياسية والمهنية الدقيقة يمكن أن تعتبر الحوار المطول الذى أجراه الزميل ياسر رزق مع الفريق أول عبد الفتاح السيسى فى جريدة «المصرى اليوم» خبطة العام الصحفية، لكن بالمقاييس الشعبية افتقد الحوار كثيرا من البريق الذى يتبدى فى نبرات صوت الفريق وهو يتحدث على سجيته دون أن ينظر فى ورقة أمامه، ودون انتظار تعليمات تأتيه من آخرين كما كان يفعل غيره.
بعد كلمة الفريق أول عبدالفتاح السيسى فى حفل أكتوبر.. اختلطت دموع عدد من الموجودين بنظرات إعجاب البعض الآخر، لكن دار نقاش جاد بين عدد من المفكرين والمثقفين، حسموا رأيهم بأن ما يفعله الفريق السيسى يمثل نقلة جديدة فى صناعة الكاريزما السياسية.. فهو لا يمتلك صوتا قويا مثل بعض القادة السياسيين الكبار، لكنه عوض ذلك بمساحة من الحنان يعرفها المصريون.. ويميلون إلى من يستخدمها، يزيد من تأثير مساحة الحنان هذه اختيار السيسى لكلمات بطبعها عاطفية، بدأها ب«تتقطع إيدينا لو مسينا المصريين»، ولا تنتهى عند قوله «انتم فى عينينا».
عندما تتأمل الحالة الوجدانية الصافية التى يتحدث بها السيسى، وتتابع على الأرض الحرب الشرسة التى يخوضها ضد الإرهاب.. وعندما تقارن بين نبرة الحنان فى صوته وبين قلبه الميت الذى قاد به ثورة الشعب المصرى ضد محمد مرسى وجماعة الإخوان.. حتما ستقع فى حيرة.. فما أنجزه السيسى على الأرض فى حرب إنقاذه لمصر وللمصريين من أنياب الإخوان.. يحتاج إلى رجل قاس حاد الملامح.. لا تتسرب الضحكات إلى وجهه إلا مصانعة.. لكن أن يكون الرجل بسيطا ومتواضعا إلى هذه الدرجة، من يتعاملون منه يشيرون إلى أنه متواضع بالفطرة، لا يتصنع البساطة، ولا ينافق من يقتربون منه حتى يكسب ودهم لتزيد شعبيته.
قد يكون هذا تحديدا هو سر السيسى.. فهو يضم فى شخصيته سمات القائد العسكرى الصلب الذى يخوض أعتى المعارك وهو يحمل روحه على كفيه.. فإما النصر وإما الشهادة – وهنا بالمعنى الحقيقى وليس على طريقة الإخوان المسلمين الكاذبة-.. وإلى جانب هذه السمات فالرجل يمتلك قدرات السياسى الذى يستطيع تطويع خصومه، واحتواء معاونيه ودفعهم إلى تنفيذ ما يريده دون عناء، وهو ما يظهر فى كثير من قرارات مجلس الوزراء التى يقف وراءها السيسى، فهو لا يظهر فى الصورة كثيرا، رغم أنه يقف وبقوة وراء أهم القرارات التى صدرت والتى تتعلق بالعدالة الاجتماعية تحديدا «إلغاء مصاريف المدارس والمدن الجامعية وإقرار الحد الأدنى للأجور ب 1200 جنيه بدلا من 800 فقط».
قد يكون من المناسب هنا أن نتأمل فى الصورة التى التقطها حسام دياب مصور «المصرى اليوم» للفريق السيسى، وهى الصورة التى تعنى الكثير، لا أتحدث عن وضعية السيسى فيها سواء وهو جالس إلى مكتبه مرة، أو وهو واقف خلف المكتب يضع يده فى جيبه ببساطة شديدة.. ولكن إلى المكتب وما يحتويه.
أعرف أن الفريق أول عبدالفتاح السيسى متدين جدا.. وقد يكون هذا هو الذى منحه التوازن النفسى خلال معركته مع الإخوان المسلمين، فهو يواجه مجموعة تعلن احتكارها للدين، يتعامل أعضاؤها على أنهم وكلاء الله فى الأرض، يرسلون بمن يعارضونهم إلى جهنم وبئس المصير، لكن الرجل وصل إلى روح الإسلام الوسطى لم يخضع لحالة الابتزاز الدينى التى يمارسها الإخوان ضد الجميع، اقرأ ما يقوله تأمل تصرفاته لاحظ تعبيراته التى تقترب من المعانى الدينية، ستجد أنه صمد أمام الإخوان لأنه ينطلق من أرضية دينية لا يأيتها التطرف من بين يديها ولا من خلفها.
تدين السيسى فى حقيقته مصرى تماما، وهو التدين الذى يسمح لصاحبه أن يخاف من الحسد، وأعتقد أن دلالة وضع سورة «الفلق» وراء ظهره فى مكتبه تشير إلى ذلك تماما، فهو يؤمن بالحسد ويقر به، ويضع السورة فى وجه كل من يدخل عليه.. فهو يتسلح ب«قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد، فى مواجهة عيون من يقتربون منه بسوء.
تدين عبدالفتاح السيسى المصرى هو الذى جعله على قناعة تامة بأن المصريين لم يخرجوا لأن الإخوان فشلوا فقط، ولا لأنهم يسعون إلى تمكين أعضاء الجماعة من مفاصل الدولة فقط، لكن لأنهم خافوا على الدولة من مستنقع التطرف، فالمصريون لا يستطيعون العيش تحت مظلات التطرف، ولذلك لما خرجوا لم يجد أمامه إلا أن يساند مطالبهم ويحقق رغباتهم، لسبب بسيط أن هذا كان مطلبه ورغبته وربما حلمه أن يرى مصر دولة وسطية كما هى لا تميل إلى التطرف ولا يخطفها أحد إلى التشدد.
حالة الوسطية التى يعيشها عبدالفتاح السيسى يمكن أن تجدها فى تفاصيل مكتبه، فبعيدا عن سورة «الفلق» التى يعلقها خلف ظهره، لا تجد شيئا لافتًا فى مكتبه، فاسمه مكتوب على لافتة بسيطة يمكن أن تجدها فى مكتب أى موظف فى أى إدارة لا فخامة فيها ولا أبهة، المكتب نفسه لا فخامة فيه ولا تنظيم مبالغ فيه، بل يمكن أن تعتبر المكتب غير منظم إلى حد كبير، وهو ما يشير إلى أننا أمام رجل لا يهتم بالمظاهر.. ولا يهتم بأن تكون له طقوس خاصة، فهو يعيش على سجيته ولا يبحث عن منظرة يعتبرها فى الغالب فارغة.
هذه البساطة كانت وراء تعبير السيسى البسيط عن علاقته بوالدته التى ذهب إليها بعد أن ألقى بيان عزل مرسى.. وهى الزيارة التى يمكن التعامل معها على أنها زيارة التأمين النفسية، فهو لم يذهب إلى أمه إلا من أجل الاطمئنان إلى أن ما فعله هو الصحيح، ترك وراءه كل شىء.. السلطة والحراسة والتأمين العسكرى والقوى السياسية التى اجتمعت معه قبل إعلان البيان والملايين التى خرجت إلى الشارع لتكون له سند وعون، وذهب يبحث عند أمه عن كلمة واحدة تمنحه الثقة بأنه يسير فى الطريق الصحيح.
بمقاييس العائلات المصرية يعتبر عبدالفتاح السيسى رجلا محافظا، لا يحب أن تصبح عائلته تحت الأضواء، ويكفى أن تعرف أنه ورغم مكانه ومكانته منذ سنوات إلا أنه لم يتدخل من أجل أن يحصل أحد من أولاده على أى ميزة لا يستحقها، وهناك بالفعل واقعة واضحة تخص ابنه الأكبر فى وزارة الخارجية التى لم يتمكن من العمل فيها بعد دخوله اختباراتها، وهى الواقعة التى أشار إليها الدكتور مصطفى الفقى فى برنامجه الشهير «سنوات الفرص الضائعة»، لم يغضب السيسى من الإشارة إلى الواقعة فهو يعتبر أبناءه مواطنين مصريين يسير عليهم كل ما يسير على غيرهم من المواطنين.
من حيث لا يدرى الإخوان المسلمون خدموا الفريق السيسى خدمة جليلة، فعبر التسجيلات التى قاموا بتسريبها له وهو يتحدث مع قادة جيشه – وهى التسريبات المسئول عنها أجهزة مخابرات عالمية – جعلوا المصريين يكتشفون جوانب جديدة فى شخصيته، فهو مرح وابن نكتة – لم يظهر هذا فى كلماته الرسمية التى قيلت معظمها فى لحظات حرجة، وهو قادر على احتواء من أمامه بكلمات بسيطة، فهو يمنح الجالسين معه شعورا بأهميتهم لديه، من خلال التأكيد على أسمائهم أكثر من مرة وهو يجيب عن أسئلتهم.. وكأنه يريد أن تصل رسالته إلى من يسأله بأنه يهتم به شخصيا، وهو ما يحدث أيضا فيمن يطلبون السلام عليه أو التصوير معه.. يجعلهم يشعرون وكأنه يعرفهم شخصيا، وليس مجرد معرفة عابرة.
رغم هذه البساطة المطلقة فإن عبدالفتاح السيسى يحتفظ بميزة يفتقدها كثيرون، فهو ومن خلال أدائه خلال الشهور الأخيرة يمكن اعتباره نجم التشويق السياسى، كلمته فى حفل أكتوبر الأخيرة لم يتم الإعلان عنها من قبل، كثيرون لم يعرفوا أنه سيتحدث من الأساس.. وعندما تحدث ظل من يسمعون إليه فى حالة ترقب لكل كلمة يقولها، فهم على ثقة أنه حتما سيقول شيئا يمثل مفاجأة، حتى لو قاله بكلمات بسيطة هادئة.. وأعتقد أن إعلانه الحرب على خصوم مصر جاء بطريقة مبتكرة دون صراخ.. اكتفى فقط بأن مصر لا تنسى من يقف معها ولا تنسى أيضا من يقف ضدها.. قال كلمته هذه ومضى دون أن يلتفت وراءه.
ولأنه نجم التشويق السياسى بلا منازع فإنه سيظل محتفظا بقراره بترشيح نفسه فى الانتخابات الرئاسية القادمة من عدمه حتى اللحظة التى يقررها هو، فهو يعرف متى يتحدث ومتى يصمت.. متى يظهر ومتى يختفى.. متى يدخل معركة ومتى يدفع الآخرين إلى الدخول معه فى معركة.. وهذه فقط بعض أسراره.