إن من يدقق النظر فى أفكار الطهطاوى التى جلب أكثرها من باريس إلى مصر منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان..يرى أن الرجل قد أرسى لنا قواعد السعادة البشرية ..فرسم لنا خريطة الوصول إلى معالم الحضارة الإنسانية والمدنية.
كان محمد على على درجة عالية من الوعى والإدراك بأهمية العلم والتعليم للبلاد حتى تلحق مصر بركب الدول المتقدمة...السؤال الذى كثيرا ما دار فى خلده لماذا لاتكون مصر قطعة من أوروبا؟! لماذا لا تخرج مصر من عصور الظلام والتخلف التى دامت خمسة قرون متصلة من الزمان إلى عصور التنوير والتألق والحضارة..وتلحق بركب الحضارة الحديثة؟! وأيقن تمام اليقين أن عزلة مصر عن سائر المجتمعات المتقدمة لن تفيد..فكان سبيله إلى ذلك إيفاد البعثات الطلابية إلى الخارج فى شتى المجالات، والإتصال بالعالم الخارجى..ليعودوا إلى أوطانهم علماء ومفكرين ومثقفين، فيعملوا على إرساء قواعد الحضارة الحديثة فى البلاد...
وكان من أهم هذه البعثات الخارجية على الإطلاق.هى تلك البعثة التى تضمنت أربعين طالبا إلى فرنسا وكان من بينهم رفاعة رافع الطهطاوى الذى سافر إلى فرنسا عام 1826 وعاد منها إلى مصر عام 1831..لترتوى من بحور فكره وآفاق عبقريته.
عندما عاد الطهطاوى إلى مصر غرس فى أبناء وطنه حب العلم وقيمة العمل...ويذكر الدكتور محمد عمارة فى أعماله الكامله وفى كتابه الفريد(رفاعة الطهطاوى:رائد التنوير فى العصر الحديث) على لسان رفاعة قائلا فى تقديره لقيمة العلم والعمل:إن دراسة العلم فى حد ذاتها،أفضل ما يشتغل به الإنسان،وأحلى ما يصرف فيه أوقات حياته،وأفضل لذات الدنيا. وفى موضع آخر كل علم نافع للملة، ولو صنعة فإنها تدخل فى العلم، فيدخل فيه كتب الزراعة والتجارة ونحوها، إختراعا أو تكميلا، فكل هذه الأشياء إختراعها وتدوينها والتأليف فيها،وتكثير كتبها،مما يحتمله فحوى العلم النافع.
ويرى الطهطاوى أن التعليم حق مكفول للجميع..ورفض بشدة ذلك المصطلح الذى كان سائدا فى ذلك الوقت والذى يعرف ب(طبقية التعليم) حيث ابن الفلاح يعمل فلاحا، وابن التاجر يعمل تاجرا، وابن العالم يعمل عالما. فليس من حق ابن الفلاح مثلا أن يعمل عالما..فرفض هذا الموقف الإقطاعى فى التربية..وذلك عندما شرح مواد الدستور الفرنسى فى كتابه الشهير تخليص الإبريز فى تلخيص باريز..فالمادة الثالثة من هذا الدستور تتيح لكل إنسان مواصلة التعليم بلا عوائق أو قيود..ولهذا كثرت معارفهم..ولم يقف تمدنهم على حالة واحدة مثل الصين والهند تلك البلاد التى تؤمن بتوارث الصنائع والحرف..ويبقى للشخص دائما حرفة أبيه.
ويرى الطهطاوى أن هناك علاقة متلازمة بين التقدم والتربية قائلا: إن الأمة التى تتقدم فيها التربية،يتقدم فيها أيضا التقدم والتمدن..على وجه تكون به أهلا للحصول على حريتها..بخلاف الأمة القاصرة التربية،فإن تمدنها يتأخر بقدر تأخر تربيتها..فالتربية هى أساس الإنتفاع بأبناء الوطن.
وفى التعليم يقول الطهطاوى: التعليم الأولى ضرورى لسائر الناس، يحتاج إليه كل إنسان كإحتياجه إلى الخبز والماء..وينبغى للحكومة المنتظمة ترغيب الأهالى وتشويقهم لما فوقه من مراحل التعليم،فهو ما به تمدين جمهور الأمة،وكسبها درجة الترقى فى الحضارة والعمران!.
أرجو أن تلاحظ معى عزيزى القارئ..كيف كان يفكر الطهطاوى فى ذلك الوقت المتأخر من الزمان. فى القرن التاسع عشر..وفى الوقت الذى كان يعتقد فيه سواد الناس أن لا للعلم ولا العمل ينسب إليهم حسب الإنسان ونسبه.فمقاييس الرفعة والشرف لا تقاس بالعلم ولا التعليم وإنما تقاس بالحسب المتمثل فى المال الكثير الموروث أو المناصب أو النسب الذى يربط وجهاء المجتمع بالعائلات الكبرى..فجاءت أفكار الطهطاوى لتدغدغ تلك الأفكار العقيمة الهزيلة التى لا ينتج عنها أى نفع أو خير للوطن..وكيف كان يعلم أبناء جيله ، ليستكملون من بعده تلك الرسالة السامية فى العلم والتربية والتعليم والفكر بشتى أنواعه..
ففى الفكر الإجتماعى يقول:إن منبع السعادة الأولى هو العمل والكد..والعدل أساس المجتمع الإنسانى والعمران والتمدن،فهو أصل عمارة الممالك،التى لايتم حسن تدبيرها إلا به..
إن من يدقق النظر فى أفكار الطهطاوى التى جلب أكثرها من باريس إلى مصر منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان..يرى أن الرجل قد أرسى لنا قواعد السعادة البشرية ..فرسم لنا خريطة الوصول إلى معالم الحضارة الإنسانية والمدنية.
إن الطهطاوى فى ذلك الوقت من الزمان كان يتحدث عن قيم الحرية والعدل وعن العلم والتعليم والتربية وأثر ذلك فى رفعة وإعلاء شأن الوطن وبناء المجد والحضارة من 1831 منذ أن عاد من فرنسا حتى وفاته فى عام 1873..فى منتصف القرن التاسع عشر......فى حين أننا ما زلنا وفى القرن الحادى والعشرين نفتقد كثيرا هذه القيم الراقية والمعانى السامية.