مصر في أشد الحاجة إلى تدعيم الشرعية الدستورية وعدم إلغاء الشرعية الثورية
محمود الشافعي
أدت المهلة التي حددتها القوى الثورية للرئيس محمد مرسى للاستجابة لمطالبها والتي تنتهى مساء غد الثلاثاء، إلى تواجد تساؤل يمكن أن تحدد الإجابة عليه سيناريوهات المستقبل الغامض لمسيرة التحول الديمقراطى المصرى، وآليات التحول من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة.
ويكمن التساؤل في إشكالية المرحلة التي تعيشها مصر الآن وحاكميتها، فهل مصر الآن في مرحلة الشرعية الدستورية التي تمتلك من الآليات ما يجعل من سيناريوهات المستقبل تحتكم إليها وتسير وفق أنماط سياسية محددة؟ أم أن الشرعية الثورية هي الحاكم الحقيقى لسيناريوهات المستقبل.
فما تشهده الميادين المصرية سواء بالقاهرة أو المحافظات منذ أكثر من أسبوع، يدور في مجمله حول تلك الدائرة المغلقة التي يمثل الخروج منها، خروجا آمنا للمصريين من حالة الاحتقان والانقسام غير المسبوقة التي يشهدها الشارع حاليا، لأن ما يجرى من خلاف متصاعد يضع البلاد والعباد على مفترق طرق مشتعلة تهدد بحرق مصر.
ويتمثل الصراع الحالى في اتجاهين رئيسيين قسما الشارع إلى معسكرين متناقضين، يعتبر كل منهما نفسه صاحب الحق في تحديد مستقبل مصر السياسي، واستطاع كل منهما أن يجمع الحشود ويجيش المناصرين الداعمين لأطروحاته، وهو ما يهدد في حال استمرار تصارع الفريقين بخروج الأمور عن السيطرة.
ويقف في الشارع الأول مجموعة القوى الثورية المحتشدة في ميادين التحرير والاتحادية وما يعادلها من ميادين رئيسية بمختلف محافظات مصر، وهى القوى التي تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة، وما يعنيه ذلك من تنحى أول رئيس منتخب، باعتبار أن الشعب الرافض له حاليا هو مصدر السلطات، وأنه لا مجال لخطوات تنظيمية يقرها الدستور أو القانون لعمليات التغيير السياسي، طالما خرج الشعب إلى الميادين.
وتتنوع تلك القوى الثورية بين اتجاهات تعارض المشروع الإسلامى بشكل عام، وقوى تعارض حكم جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، وقوى شعبية اعتبرت أن تجربة حكم الرئيس محمد مرسى فشلت في توفير الحد الأدنى من المتطلبات الحياتية، وهو ما يستوجب الرحيل بشكل فورى دون انتظار نهاية الفترة الرئاسية " 4 سنوات "، ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
وتتفق تلك القوى المعارضة لبقاء الرئيس محمد مرسى على ضرورة تواجد القوات المسلحة في قلب المشهد السياسي، من خلال إدارة المرحلة الانتقالية التي تسبق تولى رئيس مدنى منتخب لمقاليد الحكم.
وتؤكد تلك القوى الثورية من خلال الإنذار المحدد نهايته الساعة الخامسة من مساء غد الثلاثاء، أنه لا يمكن السكوت على استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وأن البديل هو ثورة شعبية جديدة بدأت بالفعل، يمكن تصعيدها من خلال تفعيل العصيان المدنى وغيره من الوسائل، وهو ما يعنى البقاء في الشارع والإحتكام إلى الشعب الذي لامس سقف اليأس من الإصلاح، في ظل استمرار حكم الرئيس مرسى.
فيما يقف في الشارع المقابل قوى تنتمى في غالبها إلى تيارات الإسلام السياسي،وهى القوى التي ترى أنه لا بديل عن الشرعية الدستورية، وأن انتهاء الفترة الرئاسية الحالية للرئيس محمد مرسى يجب أن تتم وفق آليات وسياقات مقررة في القانون والدستور، وهو ما يعنى بقاء الرئيس مرسى لنهاية فترته التي تبقى منها ثلاثة أعوام.
وترى تلك القوى المؤيدة للمشروع الإسلامى أن ما تطالب به القوى الثورية، بمثابة إنقلاب على الدستور والقانون وتهديد للشرعية التي جاء بها صندوق الانتخابات،وأن تلك الشرعية خط أحمر لا يمكن التهاون في الدفاع عنه، وبذل الغالى والنفيس لهذا الهدف.
ويبدو الصراع بين الشرعية الثورية التي لها وهج في القلوب والشرعية الدستورية التي من المفترض أن لا يحدث معها صراع إلا عبر قنوات البرلمان وما تمثله المعارضة فيه من ثقل، أمرا مثيرا لا يمكن وضع قواعد أو تصورات لسيناريهات تطوره في ظل الظروف الحالية، وذلك بسبب ميوعة الإحتكام إلى أي من الشرعيتين منذ بداية الثورة المصرية في 25 يناير 2011، وهى حالة فريدة في تاريخ الثورات سواء بالمنطقة أو العالم.
و جرت العادة على الإحتكام إلى الشرعية الثورية وقوانينها، وسيادة مفهوم العدالة الانتقالية، لضرورات أهمها حماية الثورة الوليدة، حتى تمتلك عناصر القوة اللازمة، والتي يمكن من خلالها الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، وهنا تبدأ الشرعية الدستورية، المستندة إلى قوانين حاكمة لا يمكن التملص منها، باعتبارها أساسا للحكم الرشيد.
ولعل هذا ما يفسر حالة الصراع التصاعدي بين الشرعية الثورية التي لها أنصارها، الذين يرون أن الثورة مستمرة لأنها لم تكمل أهدافها، والشرعية الدستورية التي يدعمها أنصار إعتبروا وجود رئيس منتخب وإقرار دستور - حتى لو غير متوافق عليه - هو تكريس لوضعية الدولة، بعد انتهاء مرحلة الثورة.
ويبدو أن غياب الشرعية الدستورية لما يزيد على ثلاثين عاما إبان حكم الرئيس السابق حسني مبارك، جعل دفقة الاحتقان لدى الشارع المصري عالية جدًا ومن الصعب تطويعها في دورة انتخابية واحدة، أو محاكمة لم تشف غليل الصدور لرموز النظام السابق.
وإذا كانت الشرعية الدستورية في مصر حديثة عهد، إلا أن الشرعية الثورية كان لها أطوار مختلفة منذ عام 1952 وخلال حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما يعضد ويدعم توجهات القوى الثورية التي لا ترى تغييرا في الأوضاع المصرية على كافة الصعد بعد ثورة 25 يناير، مما يكرس مفهوم " الثورة مستمرة " وأن القوى الثورية يجب أن تكون هي الحاكمة بدعم الشارع المتطلع للحرية والعدالة الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق بات البديل المطروح في مواجهة الشرعية الدستورية، هو الشرعية الثورية التي لا تقيم وزنا لقوانين معمول بها من دون الانتباه إلى قوة جمهور الشرعية الدستورية، وأغلبه ينتمى إلى تيارات الإسلام السياسي.
وفى هذا الإطار تبقى الشرعية حائرة بين أنصار " القصر" وأنصار " الميدان "، بينما تبدو التساؤلات أكثر حيرة، فماذا يمكن أن تتصور المعارضة أنها قادرة على عمله أهي انتخابات مبكرة ومن يضمن أن يقبل الطرف الآخر بإجرائها، ومن يضمن أيضا عدم الانقلاب عليها بعد شهر أو عام والمطالبة بانتخابات أخرى مبكرة، واستمرار التساؤلات يعنى بالضرورة استمرار الدوامة التي تستهدف مصر كلّها من حيث الوجود والهوية.
وفى ظل استمرار ما بات يعرف بحال " الإنسداد السياسي " الذي يؤججه حوار الطرشان بين مؤسسة الرئاسة والقوى الموالية لها من تيارات الإسلام السياسي من جهة، والقوى الثورية المستندة إلى حراك شعبى من جهة أخرى، فإن الأوضاع تنذر بكارثة خاصة في ظل سيادة أنماط من العنف، الذي يتبادل الطرفان الاتهامات بشأن المسئولية عنه.
ولعل ما يدعو للأسف هو استمرار حال الإستقطاب المفعم بالصراع بين مختلف القوى المتواجدة على الساحة المصرية، دون النظر إلى مصلحة البلاد العليا التي باتت مهددة، بسبب المخاوف الداخلية والخارجية من إنفلات الأمور، وذهاب الخلاف إلى منطقة لا يمكن السيطرة عليها.
وفيما يعلن الجميع رغبته في الحل - وفق رؤيته - التي لا يتنازل قيد أنملة عنها، يبدو شبح الفوضى منتظرا حتى يأخذ فرصته الكاملة في التمدد ما شاء له التاريخ، وتبقى الحرائق تنتظر لحظة الإشتعال ما شاءت لها الجغرافيا، وهو ما يعنى تزايد حجم الاضطراب ومساحة المشاحنات التي ما زالت تتصاعد، يزكى نارها التدافع السياسي والشعبي الذي يزداد سخونة مع انتشار العنف وحدة الاحتقان.
وإذا كان الرئيس محمد مرسى قد اعترف بسلسلة من الأخطاء التي يجرى تصويبها " وفقا لخطابه الأخير "، إلا أن المراقب لحال البلاد على مدى عام من الحكم لا يمكنه إلا أن يؤكد فشل النظام في استيعاب الأزمات أو إدارتها،رغم الاعتراف بوجود معوقات تمنعه من العمل بكامل لياقته.
إلا أن الفوضى التي يمكن أن تمتد في حال استمرار انسداد الأفق السياسي لتنشب أظفارها في البلدٍ وتستقر فيه، لا يمكن لأحد انتشال البلد منه إلا بشق الأنفس، وعبر سنوات من عدم الاستقرار على كافة المستويات.
وليس ثمة شك في أن حالة التخندق الحالية تجعل مصر في أشد الحاجة إلى تدعيم الشرعية الدستورية وعدم إلغاء الشرعية الثورية، لاسيما إنهما شرعيتان نابعتان من إرادة المصريين الحرة، وهو ما يفرض على الحراك الثوري المصري الاحتكام إلى أطر ديمقراطية مدنية تكون مسيطرة على الشارع، والاستفادة من زخم الحشد الجماهيرى في فرض فعل سياسي " محسوم النتائج " يسهم في تكييف المجال العامّ بين الديمقراطيّة كنظام والثورة كمنهج.