تقع السفارة الأمريكية بالقاهرة على مسافة قربية من كنيسة قصر الدوبارة، وقصر الدوبارة هو اسم المكان الذى اتخذه المعتمد البريطانى أيام احتلال مصر مقرا له، ومن هذا المقر حكم المعتمد البريطانى الواحد تلو الآخر السياسة المصرية حتى جاءت ثورة 23 يوليو لتنهى هذا الوضع، هل كان من سبيل المصادفة أن تختار أمريكا سفارتها بالقاهرة بجوار السفارة البريطانية، وفى نفس موقع مقر المعتمد البريطانى، ربما تكون بالفعل مصادفة، مصادفة لا يمكن ربطها بأن أمريكا ورثت نفوذ بريطانيا بعد أن غربت الشمس عن امبراطوريتها. ولكن أمريكا حاولت لسنوات طويلة أن تبتعد عن ثروة وريث الإمبراطورية البريطانية، وإن كانت تفعل ذلك بدبلوماسية ورقة شديدة، وينكر دبلوماسيوها حول العالم أنهم يتدخلون فى الشئون الداخلية للبلاد التى يعملون فى سفارات أمريكا بها، ولذلك بدا لى وللكثيرين أيضا أن السفيرة الامريكية بالقاهرة آن باترسون قد خرجت عن هذه القواعد أو ربما الأصول، أجرت السفيرة حوارا صحفيا مع صحيفة المصرى اليوم، وبين إجابة وأخرى تنظر آن لمستشاريها وتقول عبارات إنشائية من نوع «ليس من طبيعة أى دبلوماسى التدخل فى العملية» أو «القرار يرجع بالطبع للشعب المصرى» «أمريكا لاتقوم بالوساطة بين الحكومة والمعارضة»
ولكن إجابات السفيرة الأمريكية عن معظم الأسئلة تؤكد ما تحاول نفيه، وتكشف وتكثف الدور الأمريكى فى اللعبة السياسية والاقتصادية بمصر، وعلى الرغم من أن آن باتروس كانت بارعة فى المراوغة عند الإجابة عن بعض الأسئلة، فإن هذه المراوغة لم تخف علاقة وطيدة وحميمية وتقوم على النصح الدائم «على أقل تقدير» بين السفيرة ومرسى وإخوانه.. وحكومته وبخفة دم مصرية جاءت تعليقات القراء على الموقع الإلكترونى للصحيفة لتعلق على هذه الحميمية .فقد قال أحد المشاركين «أول مرة أشوف عضوة فى الإخوان مش محجبة، وقال آخر دى أكيد مستشارها الإعلامى عضو بمكتب الإرشاد وهو ده مشروع النهضة.
1
باترسون وانتخابات الرئاسة
أخطر وأهم تهمة توجهها بعض قطاعات المعارضة لأمريكا هى أنها ساندت وصول مرسى الإخوانى للحكم، وحديث الصفقات لم ولن ينقطع سواء فى غرف السياسة المغلقة أو غرف «الشات» فى فضاء الإنترنت، وفى سياق الحوار سألوا عما قاله الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن أن السفيرة اتصلت بالمجلس العسكرى، وكان ذلك الاتصال فى 24 يوليو الماضى، وفى هذا الاتصال طالبت السفيرة «بحسب هيكل» المجلس بسرعة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، ويكفى للإجابة عن هذا السؤال أو بالأحرى الاتهام الخفى أن تقول السفيرة إما نعم أو لا، ولكن أن راوغت حتى لا تقطع بإجابة حاسمة أو قاطعة، فأمريكا تريد أن تظل اللاعب الرئيسى فى اللعبة السياسية المصرية، ولذلك ظلت السفيرة تماطل.. مرة تقول إنها لم تشاهد برنامج الأستاذ هيكل، ومرة أخرى لا أتذكر مناقشة ذلك الأمر مع المجلس العسكرى «فالمسألة تتعلق بقوة ذاكرة السفيرة وآفة البشر النسيان، وتضيف أن العديد من المنظمات الدولية كانت شغوفة تجاه إعلان النتائج ومعرفة الفائز «تحولت المسألة إلى مجرد فضول».وأخيرا وعندما سألوها بشكل مباشر إذن المعلومة غير صحيحة عادت للمراوغة، وقالت بعد «لفة» توجهوا للمجلس العسكرى واسألوه.
وعلى الرغم من مهارة السفيرة إلا إن أى عاقل، أو حتى نص مجنون سيخرج من هذه المراوغات، وليس الإجابات بنتيجة واحدة، وهى أن الواقعة صحيحة مائة فى المائة، وخاصة أن السفيرة كانت تلجأ إلى النفى القاطع فى بعض الإجابات الأخرى فى حديثها، ولكنها لم ترغب لسبب ما فى نفس السفيرة أو ماما أمريكا فى أن تنفى الواقعة، بالطبع، فالسفيرة تريد أن يظل الشك حول دور أمريكا فى وصول الإخوان للحكم قائما للجميع، وأن تظل أمريكا هى مفتاح الحل فى مصر، ولكن من باب الدبلوماسية ممكن نستخدم تعبيرات من نوع النصيحة أو الأمنية أو أننا نرغب فى المساعدة.
2
باترسون وزير اقتصاد
بالنسبة لى فإن أمريكا لن ولم تترك الملف الاقتصادى فى مصر بدون تدخلات ومشروطيات بحسب الأحوال والحكام، فأمريكا تريد إدماج اقتصاد مصر فى شبكة علاقات الاقتصاد الحر، ولذلك لم أندهش لتورط السفيرة فى محاضرة اقتصادية للدفاع عن سياسات صندوق النقد، أو بالأحرى الدفاع عن مرسى وإخوانه الذين يهرولون لإرضاء صندوق النقد، السفيرة روجت للقرض بأن الفقراء سيحصلون على الدعم الحكومى وليس الأغنياء وأن الضرائب ستزيد على الأغنياء فى المقام الأول، واضح أن السفيرة تعرف عن اتفاق الحكومة مع صندوق النقد بأكثر مما يعرف الكثيرون من السياسيين.. فضلا عن الشعب المصرى، فخلال لقاء وفد الصندوق مع حزب النور كان الأخير يشكو من أنه لا يعرف خطة الحكومة للإصلاح الاقتصادى.
فى موقع آخر بالحوار أكدت أنها تكتفى بتشجيع الحوار، ولكنها كانت حريصة على الإضافة التالية «بجانب التطرق إلى تطبيق بعض الإجراءات الاقتصادية على نطاق واسع»، ولكن السفيرة الأمريكية لم تكشف عن نوع هذه الإجراءات التى يتطرق إليها الحوار مع مرسى والحكومة، وبالمثل لم تحدد مدى اتساع نطاق تطبيق الإجراءات الاقتصادية، ولا يحتاج الأمر لذكاء كبير أو تجسس على السفيرة فى جلساتها الخاصة لمعرفة نوع الإجراءات، فالإخوان وافقوا منذ بداية علاقتهم بأمريكا على السير فى نفس طريق مبارك الاقتصادى، سياسة السوق الحرة، والخصخصة، وفتح أسواق مصر وحدودها التجارية «سداح مداح» والتوقف عن حماية الصناعة الوطنية وإلغاء الدعم تدريجيا على البنزين، البوتاجاز ورغيف العيش، وليس من باب المصادفة أن معظم هذه البنود هى بالفعل محور المفاوضات مع صندوق النقد برعاية السفيرة الأمريكية أو بالأحرى وزيرة الاقتصاد المصرى آن باترسون
كانت زيارة الدكتور مرسى لباكستان خارج سياق دوائر مصر الخارجية، وقد أرجع البعض الزيارة الغامضة إلى نصيحة أمريكية للتعرف على نظام الحكم فى باكستان، ولم أستبعد هذا التبرير الشاذ والغريب، فلم يعد شيء يثير الدهشة أو الاستغراب من مرسى وإخوانه، والحديث عن نقل النموذج الباكستانى لمصر كان مسار جدل خلال الفترة الانتقالية. وقد تحمس البعض للنموذج الباكستانى فى مقابل حماس آخرين للنظام التركى وقد لفت نظر البعض اختيار أوباما ل«آن» للعمل بمصر.. وقد كانت سفيرة بلدها فى باكستان، وعندما سألت عما قيل عن رغبتها فى تحويل مصر إلى باكستان أخرى، لم تنف السفيرة أو تقول إنها لا تجرؤ على اختيار نظام لمصر، ولكنها اكتفت بالقول إن مصر ليست باكستان.. للإنصاف فإن السفيرة تحدثت عن مزايا مصر التاريخية والحضارية، ولكن السفيرة أو المندوبة السامية لأمريكا لم تنف الجزء الأخطر فى السؤال.. والجانب الأكثر إهانة لمصر، والجانب الذى يضع مصر كقطعة صلصال تشكلها أمريكا ورجالها مرة على النموذج الباكستانى، ومرة أخرى على النموذج الإيرانى أو التركى.
إذا كانت السفيرة قد استشفت من لقاءاتها بالحكومة أو بمرسى وإخوانه أن مصر سهلة طيعة، وإذا كانت السفيرة الأمريكية قد وجدت أن الإخوان ينفذون «نصائحها» على طول، وبمنتهى منتهى السهولة، فعليها أن تعرف أن مصر ليست مرسى ولا إخوانه، وأن الأمريكان الذين راهنوا على نظام مبارك كثيرا وقبله راهنوا على نظام على زين العابدين فى تونس، ثم داهمتهم ثورتا الشعبين التونسى والمصرى، هؤلاء الأمريكان وعلى رأسهم السفيرة عزيزة أقصد السفيرة آن باترسون سوف يفاجئون مرة ثانية وثالثة بمصر أخرى غير الاتحادية ومكتب الإرشاد، مصر ترفض الخضوع والنصائح والإملاءات والشروط، مصر تخرج من العباءة الأمريكية، وتحطم الصفقات السرية بين أمريكا والإخوان.. مصر أخرى تتعلم فيها السفيرة حدود الحديث فى شئون مصر.