يبدو أن الحل فى اللجوء إلى البدو لحماية القنوات المهددة مثلما حدث مع منشآت وشركات وتجمعات سكنية متنوعة فى المنطقة فى الوقت الذى شدت فيه عروق «رئيس الدولة» مهددا ومتوعدا كل «من يضع أصبعه فى مصر» بقطعه.. كانت جماعات متنافرة من ملتحين ومتنقبات وبائعى «بطاطا» تحت سيطرة تنظيمات جهادية وسلفية وإخوانية تحاصر مدينة الإنتاج الإعلامى وتغلق بواباتها لتصبح جاهزة للاعتداء على مقدمى البرامج الليلة (التوك شو) وتحطيم سياراتهم فيما يوصف بيوم «العزاء فى حرية التعبير».
تعمد الرئيس «الغاضب» أن يهاجم «سحرة فرعون» فى تلك الساعات وكأنه يبارك العنف ضد نجوم الشاشة الصغيرة.. الأكثر مصداقية.. وربما.. الأكثر تأثيرا.. فالمنصب مهما ارتفع شأنه لا يضيف إلى شاغله بريقا إلا بالإنجاز.
عند تأميم القناة كانت كلمة «ديليسبس» شفرة البدء.. ما أن ينطق بها جمال عبد الناصر حتى يتحرك رجاله للتنفيذ.. لكن.. لم نعرف الكلمة الشفرة التى نطق بها الدكتور محمد مرسى لبدء غزوة «المدينة».. «أصبع».. «توافه».. أم.. «إجراءات استثنائية».
والمؤكد أن الإشارة وصلت.. فقرر فتوات الحصار أن يأتوا بالإعلاميين بجدارة فى «شكارة».. فتحطمت السيارة التى كانت تقل حسين عبد الغنى.. وعجز ضياء رشوان عن دخول استديو القاهرة اليوم.. وأصيبت ريهام السهلى.. وبدأ الحديث عن مؤامرة التخلص من يسرى فودة فى حادث السيارة الذى تعرض له على طريق رأس غارب.. ليتواصل مسلسل الدم فى سلك الكلمة الحرة بعد أن شلت المحكمة الدستورية بنفس أسلوب الحصار.. من نفس الأشخاص.. تقريبا وبنفس التعليمات التى يديرها قادة العنف بالريموت كنترول.. غالبا.
بعد تمزيق القضاء.. وفرض سطوة السلطة التنفيذية على بعض أجنحته.. وأخذ الشرطة بعيدا عن الحياد.. وفشل اختراق القوات المسلحة.. والتسلل إلى التعليم والحكم المحلى.. جاء الدور على «الإعلام النبيل» على حد وصف طارق حجى.
لقد فشل النظام القائم فى توفير كل شىء.. رغيف الخبز.. نور الكهرباء.. خلق الوظائف.. تسيير المرور.. تنظيف الشوارع.. الحفاظ على قيمة الجنيه.. جذب الاستثمار.. لكن.. بدلا من أن تعالج الحكومة نفسها من مرض العجز.. قررت ضرب من يفضح عوراتها.
وما يضاعف من حجم الفشل هو عدم استيعاب «أهل الكهف» الذين تعودوا على التنظيمات والمؤامرات المعتمة تحت الأرض لحقيقة السموات المفتوحة التى منحتها التكنولوجيا لحرية المعرفة.. حرية الكلمة والصورة.. فلو أغلقت استديوهات القاهرة ستنتقل الفضائيات إلى استديوهات أكثر جرأة فى دبى أو عمان أو لندن أو كيب تاون فى جنوب إفريقيا.. انتهى عصر التشويش والتضليل والتكميم.. لكن.. أغلب الأغبياء لا يعرفون.
ولو كان من السهل مطاردة عشرة أو عشرين إعلاميا يظهرون بأنفسهم علنا فكيف يمكن السيطرة على مئات بل ألوف من مبدعى شبكات التواصل الاجتماعى.. وهم موهوبون فى الرسومات الساخرة بما يتجاوز المحترفين.. وهم بارعون فى التعليقات الذكية المؤلمة بما لم يصل إليه أكثر كتاب الأعمدة شطارة.. ولكن.. الأغبياء أيضا ينسون ذلك.. وتناسوا أن هذه الشبكات هى التى أسقطت نظام مبارك فى ساعات قبل أن يعلن رحيله بعد أيام.
ويبدو أن هناك تناقضا فى التعبيرات التى استخدمها «الرئيس».. فهو يتحدث عن حملات التشويه المتعمدة لمكانة المرأة المصرية دون أن يتوقف عند سحل النساء وضرب الصحفيات وتكميم أفواه الناشطات.. ويشدد على أن «زمن بناء السياسات الفوقية قد ولى ليحل محله نهج ديمقراطى أصيل» دون أن ينسى التهديد باتخاذ إجراءات استثنائية.. ويؤكد أنه لن يسمح بإراقة المزيد من الدماء فى الوقت الذى ترك فيه بلطجية من نوع شرس يتصدون لرموز سياسية ووطنية وحزبية جاءت إلى مقرات الفضائيات لتعبر عن نفسها.
وبينما استماتت الشرطة فى الدفاع عن مكتب الإرشاد بما يزيد عن حمايتها للقصر الجمهورى اكتفت قوات الأمن بحراسة المدينة من الداخل.. اكتفت بالحفاظ على المنشآت والاستديوهات.. تاركة حياة ثروة مصر من الإعلاميين والصحفيين مكشوفة أمام حجر من متهور أو سكين من متشدد أو طلقة من إرهابى.. الشرطة لم تعد فى خدمة الشعب وإنما فى خدمة الجماعة التى تحكمه.
ويبدو أن الحل فى اللجوء إلى البدو لحماية القنوات المهددة.. مثلما حدث مع منشآت وشركات وتجمعات سكنية متنوعة فى المنطقة.. دفعت.. وحميت.. ميليشيات محترفة أمام ميليشيات مأجورة.. ليتضاعف التمزق والتشرد والتشرذم والانقسام الذى فرضته الجماعة على الأمة.. وهى كارثة بكل المقاييس.. تعنى انهيار الدولة.. فعندما تتنازل حكومة عن سيف القانون لبعض من الناس فإن رقبتها أول من سيطير بضربة منه.
ومن سخرية الأمن أن كبار جنرالاته كانوا عاجزين عن الخروج من وراء أسوار المدينة.. دون أن يحترم واحد منهم نفسه أو سترته أو رتبته ويستقيل.. أو يحتج.. لقمة العيش فى مصر أصبحت على ندرتها مغموسة بالذل والقهر.. لا أحد آمن حتى من يعمل بالأمن.
فى تلك الليلة كان علىَّ تقديم حلقة الأحد من برنامج «آخر النهار» على قناة النهار.. وبسبب الزحام قطعت الطريق من بيتى إلى المدينة فى ثلاث ساعات.. لم أشعر بالخوف من الفاشية التى تنتظرنى.. واجهت من قبل تنظيمات العنف المسلح.. لم أتراجع عن كشفها رغم أنها وضعتنى على قوائم اغتيالاتها.. ثبت أننى على حق.. فهى التى تراجعت عمّا تفعل.. واعتذرت عمّا فعلت.. وانطوت تحت جناح العمل السياسى السلمى.. كنا نحن الذين وصفونا بالكفرة على صواب.. وكانوا هم الذين رفعوا رايات الجهاد على خطأ.. وربما امتد الخطأ ليتجاوز حدود الخطيئة.
لم أعتذر عن تقديم البرنامج.. ودخلت من بوابة مهجورة.. عبر طريق غير ممهد.. وما آلمنى أن قيادة فى ماسبيرو حيث التليفزيون الرسمى كانت توجه بلطجية ناحية مقدمى البرامج.. حددت لهم من ظهر على الشاشة ومن ينتظر ظهوره.. ومشت معهم من بوابة إلى بوابة حتى أغلقت جميعا.. مستعينة على ما يبدو بما لديها من خرائط ومعلومات.. فى تحريض سافر على القتل.. لتغطية فشلها رغم الإمكانيات الهائلة والمفرطة فى مواجهة قنوات محدودة.. لكنها.. موهوبة.
لكن.. على الجانب الآخر.. تلقيت مكالمة من الصيدلانى مصطفى يحيى العسيلى يطالبنى فيها بطمأنة ريم ماجد التى استغاثت على الهواء بأنه سيأتى ومعه مجموعة من أصدقائه لإنقاذها.. مهما كان الثمن.. فمصر لم ولن تعدم الرجال.
وما ضاعف من المقاومة أن ضيوف برنامجى وصلوا إلى الاستديو رغم الحصار.. الدكتورة مايا مرسى المسئولة عن ملف المرأة العربية فى الأممالمتحدة.. وطارق حجى.. بكل ما يحمل الاسم من ثقافة وحضارة ومهارة فى الإدارة.
كنت قد التقيت الدكتورة مايا مرسى فى مطار نيويورك بصحبة السفيرة ميرفت التلاوى بعد أن حضرتا اجتماعات لجنة «وضع المرأة» التى انتهت بوثيقة شهر بها الإخوان قبل أن يقرأوها.
وصفوها بأنها تمنح الفتاة كل الحرية الجنسية.. وتوفر وسائل منع الحمل للمراهقات.. وتساوى بين الزوجة والزانية.. وتمنح الشواذ كل الحقوق.. وتساوى فى الميراث.. وليس فى هذه الادعاءات شىء واحد صحيح.. فالوثيقة غير الملزمة إلا لمن يؤمن بقيمة المرأة وكرامتها تتحدث عن العنف ضد النساء.. وتدين جميع أشكاله.. وترفض التحرش الجنسى.. وتطالب بالتحقيق مع كل مسئول فى موقع سلطة (مثل المعلمين والشيوخ ورجال القانون) يمارس عنفا ضد امرأة.. كى لا يفلت من العقاب.
وأجمل ما توقفت عنده فى حديث طارق حجى هو أن الإخوان يسعون إلى تغيير ثقافة المصريين.. ثقافة البسمة.. والنكتة.. والكلمة الطيبة.. والأغنية العاطفية.. والسينما الموحية.. الثقافة السمعية والبصرية التى شكلها على مر سنوات طوال سيد درويش.. ومحمد عبدالوهاب.. وصلاح جاهين.. وفاتن حمامة.. ونجيب محفوظ.. ويوسف إدريس.. وأحمد بهاء الدين.. والشيخ محمد رفعت.. ومثال حركة النهضة مختار الذى جسد فى تمثال نهضة مصر الفلاحة المحمية بأبى الهول وهى ترفع الحجاب عن رأسها.. وهو التمثال المرشح للتحطيم بعد تماثيل طه حسين وأم كلثوم.
ويؤمن طارق حجى بأن اعتدال الإخوان وهم.. فقد ابتكروا التحريم.. والتكفير.. والقتل.. ومن تحت عباءتهم خرجت جماعات أخرى تواصل المهمة والرسالة.. وتكرر نفس الجناية.. لكن.. قبل ذلك جرى استخدام سياسى خارجى لبعض منهم.. فالإخوان كانوا طرفا فى معادلة الوفد والقصر والإنجليز.. والجهاديون ساندوا المخابرات الأمريكية فى أفغانستان.. والبيت الأبيض سهل وصول الجماعة إلى الحكم فيما يشبه الصفقة.. أمن وسلامة إسرائيل مقابل الرئاسة.. إن التجارة بالدين تجاوزت الحدود الوطنية إلى سراديب المؤامرات الدولية.
وعندما قلت لطارق حجى إن المنظمات اليهودية فى الولاياتالمتحدة لم تبد ملاحظة واحدة ولو عابرة ضد حكم محمد مرسى أيد كلامى.. وتأييده له وجاهته.. فهو دارس متعمق لسلوكيات وتصرفات واحتجاجات تلك المنظمات.
لكن.. ما لم يتح لى التعرض له فى البرنامج.. قضية تسليم قذاف الدم ورفاقه الليبيين.. لقد كنت أول من وافقت على نشر ملف انحرافات الرجل فى مصر عندما نشرت لزميلى وائل الإبراشى تقريرا عن سهراته ونزواته.. وقامت الدنيا ولم تقعد.. واضطر القذافى إلى سحبه وحبسه فى معسكر تأديب فى ليبيا.. قبل إعادته مرة أخرى إلى مصر.
وما أخشاه أن يكون التسليم شرطا لصفقة مالية تبيع فيها مصر سمعتها العريقة فى حماية من يلجأ إليها.. وإن كان مبارك قد كسر هذه السمعة عندما سلم منصور الكخيا.. وقيل إن الثمن كان تابوتا من الدولارات وضع فيه المعارض الليبى قبل تسليمه.. لكن.. لو كان النظام الديكتاتورى قد تورط فى هذه السقطة فكيف يكررها النظام الذى يلتحف بالثورية ولا يكف عن الكلام عن نقائها وطهارتها ؟.. إن مصر كانت حضنا لكل الغرباء منذ أيام محمد على باشا.. فلا تنزعوا الدفء وتزرعوا الأشواك.
كما لم يتح لى عرض قضية عدم شرعية جماعة الإخوان المسلمين.. فقد حلت فى 14 يناير 1954 بقرار من مجلس قيادة الثورة بعد اعتبارها حزبا سياسيا يطبق عليه قانون حل الأحزاب الصادر فى 14 يناير 1953.. وعندما جاء دستور عام 1956 حصن كل قرارات المجلس فأصبح من الصعب الطعن عليها.
وفى عام 1977 رفع مرشد الجماعة عمر التلمسانى دعوى قضائية مطالبا بعودة الجماعة.. جددها بعد وفاته المرشد التالى محمد حامد أبو النصر.. وفى عام 1992 حكمت المحكمة بعدم شرعية الجماعة.. وإبقائها فى دائرة المحظورة.. وعندما شمت الجماعة مؤخرا أن عدم الشرعية سيلاحقها أعلنت أنها وفقت أوضاعها بالإخطار طبقا للمادة 51 من الدستور الجديد.. وهو تصرف غير قانونى.. فالدستور وحده لا يكفى لمثل هذا التصرف.. قبل صدور القانون المنظم لعملية الإخطار.. وهو محل نقاش فى مجلس الشورى.
ولو افترضنا أن التصرف سليم فإنه طبقا لقانون الجمعيات الأهلية لا يجوز للجماعة (أو الجمعية) ممارسة أى نشاط سياسى.. ولا يجوز أن تهدد الوحدة الوطنية أو تدعو إلى التمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين أو اللون أو اللغة.
ولو كانت الجماعة غير شرعية حتى الآن فإن مقاراتها وتصريحاتها وتشكيلاتها غير قانونية.. بل ويجب أن تحاسب طبقا للمادة (86 مكرر) من قانون العقوبات التى تنص على عقاب بالسجن كل من أنشأ أو أسس أو أدار أو نظم على خلاف القانون جمعية أو هيئة أو منظمة أو عصابة يكون الغرض منها تعطيل القانون أو الدستور أو الاعتداء على الحرية الشخصية للمواطن أو غيرها من الحريات العامة.. ويعاقب بالسجن المشدد كل من تولى زعامة أو قيادة ما فيها.. ويعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من انضم إليها أو شارك فى تمويلها أو روج لها.
هذا هو القانون الذى يدعونا محمد مرسى لاحترامه.. فهل يحترمه هو شخصيا أم أن الجماعة منطقة خطرة لا يجرؤ على الاقتراب منها ؟
إن ما كنت سأقوله على الهواء كتبته.. وما كنت سأشير إليه نشرته.. فالكلمة طائر يحلق فى سماوات لا تطولها سلطة تتوحم عليها مهما كانت قدرتها على القنص.. والضرب.. والسحل.. «كان غيركم أشطر».