السماء سوداء والدخان الأسود يملأ المكان والعين تنبض "تغمض وتفتح " والأنفاس تتسارع ويحاول محمود ان يستيقظ من نوم عميق ولا يستطيع ، واذا برجل ابيض الوجه ، النظر في وجه يبتسم له القلب ، يمد يده لمحمود ويشدها ليعدل من وضعه. وعدل من وضعه وشكره محمود ولكن الرجل لم يرد وابتسم له ، ثم عاد محمود يقول له : لا حقيقي ألف شكر ، لولاك انا كنت هنام لبكرة هنا .. بس هو انا ايه اللي جابني هنا !!!؟ الرجل .. ينظر اليه والابتسامة مازالت على وجهه وعاد محمود مرة اخرى ليقول : اه صح ده انا كنت ماشي في مظاهرة .. بس هي فين ، والناس فين !!! والشرطة فين !!! ؟ معقول الناس دي كلها اختفت ...و ينظر محمود حوله ويقول : ايه ده !!! مش ده القصر ؟ اومال فين الحرس ؟ فين الكلام اللى مكتوب على السور؟ في الاسلاك ؟ فين المدرعات ؟ فين وفين وفين ؟ الرجل يبتسم له ثم ينطق بكلمات بسيطة تنم عن ارتياح : مش مهم كل ده .. المهم انت عامل ايه دلوقت ؟ محمود : انا احسن كتير .. بس حاسس بوجع جامد في دماغي .. عموماً مش مهم كل يهون فداكي يا قمر . الرجل : قمر مين ؟!! محمود : مصر يا استاذنا ، هي في غيرها قمر .. بس زعلان اوي يا استاذ . وقد نظر اليه الرجل نظرة تطالبه بإستكمال الحديث محمود :زعلان لأني اتبهدلت اوي .. ومش اول مرة .. وياريت بفايدة .. انا خايف يجي اليوم و اكره الثورة. الرجل قاطعه غاضباً وهو يقول : لأ .. ثورة ايه اللي تكرها ! اهدأ وقل لي ايه ذنب الثورة في انك تكون نايم على الأرض هنا !!؟ محمود : ايه يا استاذ انت مش عايش معانا ولا ايه ؟ الرجل : اهدأ بس واحكي واخذ محمود يسرد في جميع الاحداث التي عقبت الثورة بداية من الاعلان الدستوري لمارس2011 حتى مرور 7 شهور على انتخاب اول رئيس منتخب في مصر بعد الثورة. الرجل والحزن يبدو على وجهه : ياه ده مات كتير اوي على كده بعد الثورة !! وانا اللى كنت فاكر ان اخر اللى ماتوا كانو في الثورة .. طيب ليه محاولتوش تقربوا وجهات النظر .. علشان توصلوا لحل ؟ ومش يموت العدد ده كله ؟ محمود : كله بيقول يلى نفسي ، محدش عارف اي حاجة يا استاذ الرجل : طيب ده بخصوص حال السلطة .. طيب والزراعة عاملة ايه ؟ والصناعة ؟ والاسكان ورغيف العيش و الشباب والوظائف ؟ محمود : اقولك على حاجة علشان اوفر لك قصص وحكايات ، واننا نحكي في المحكي ، احنا متقدمناش خطوة من 11 فبراير "يوم تنحي مبارك "، يمكن رجعنا مئات الخطوات ولم نتقدم خطوة ، بالنسبة للبناء فالعمارات بتقع ، وبالنسبة للزراعة فالحمدلله اقتصرت على كام فلاح في البرلمان وياريت كمل ده انحل، وبخصوص الصناعة فالعصيان المدني شغال من ناحية والوقفات الاحتجاجية من ناحية ، اما بقا رغيف العيش فالحمدلله اتسحب واتسحل زي حمادة ، والوظائف بيقوله انها موجودة بس مش بنشوفها لكن في ناس بتتعين بصراحة والدنيا كلها عارفاهم ، اما الشباب بيموت . الرجل والحزن بدأ يظهر على وجهه : مين حمادة ؟ محمود : لا ابداً ده واحد اتسحل الرجل : اتسحل !!! وبتقولها عادي كده محمود : مهو السحل عادي يعني ،، ومش اول مرة تحصل يعني الرجل وهو يغمض عينيه من شدة الأسى : بس كفاية . محمود : كفاية ليه ؟ هو انت حاسس بينا اصلاً ؟ يا استاذ انت شكلك كنت مهاجر بس تصدق كويس انك مش معانا في البلد دي ؟ كفاية ايه بس ، اقولك ايه تاني ، اقولك ان شباب راحوا يتفرجوا على ماتش كورة ماتوا !! اقولك على اطفال رايحين المدرسة اتفرموا !! اقولك على مجندين رايحين المعسكرات لملموا اشلاءهم من على قضبان السكك الحديدية !! اقولك ان في زميلي اسمه الجندي اتقتل بسبب التعذيب وفي الاخر قالوا حادثة عربية !! اقولك ايه تاني الرجل وقد بدأ يبكي : بس كفاية .. ارجوك كفاية ؟ محمود : انا اسف .. بس دي الحقيقة .. كل حاجة راحت ، ومش شايفين بكرة ، انا خلاص بدأت اترحم على ايام مبارك .. عارف يا استاذ ، انا نفسي اموت ، اكيد اللي عند ربنا احسن بكتير من اللى احنا فيه . وهنا نظر الرجل إلى محمود و وجهه تملأه الدموع ، ويقول في دهشة و زعر !! تترحم على ايام مبارك !!! ليه يابني كده !! محمود : مقصدش يا استاذنا .. بس خلاص الواحد فاض بيه وسكت الاثنان قليلاً ثم عاد محمود يسأل الرجل : بس هو حضرتك موجود هنا ليه ؟! .. هو حضرتك كنت معانا في المظاهرة؟ بس اظن لأ .. لأنك مش عارف اى حاجة في البلد يبقا ازاى كنت معانا ؟ والرجل قد وضع رأسه بين يديه وكأنه يتحسر وينظر الى الأرض والدموع تتساقط على الأرض وهو يكلم نفسه : كل شيء ضاع هباءاً ، كلنا رحنا بلاش !! كله بياكل في بعضه !! كله عاوز السلطة والمال !! بس ازاي !! ده احنا كنا ايد واحدة !! بنتغطى بنفس الغطا ..بناكل من نفس الأكل !! يعني ايه !! يعني كل ده كان تمثيل !! يعني انا مت بلاش !!؟ محمود وقد بدا عليه الفزع وتراجع قليلاً : انت مين ياعم ! ياعم انت مين ! ولم يرد الرجل ، وعاد محمود ليكرر سؤاله : انت مين !! ابوس ايدك رد عليا !! وهنا اشتد الرجل في بكاءه وفي غصة يقول : انا زي زيك يا محمود محمود وقد بدأ القلق عليه وشعر بضربات قلبه سريعة : زيك زي ازاي ؟ الرجل وهو يحاول ان يتماسك : يعني احنا الأتنين متنا لنفس السبب محمود وقد تجحظت عيناه : متنا ازاى .. انت عاوز تقول ايه ؟ الرجل : محمود امسك نفسك واسمعني واهدأ ، انا فات على موتي سنتين ، وانت فات على موتك ساعتين محمود وقد بدأ يفقد اتزانه واستيعابه : ميت من سنتين وساعتين ، ايه اللى بتقوله ده !! وبدأ محمود في العياط : ايه اللى انت بتقوله ؟ !! .. انت اكيد بتكذب. الرجل وكأنه لم يسمع سؤال محمود وبدأ يحكي : من سنتين وتحديداً يوم 2 فبراير وفي ميدان التحرير شوفت السماء نور واخر حاجة شوفتها علم مصر وهو بيرفرف ، وقولت اموت يابلدي وانتي تعيشي ، عشان اشوف البلد دى احسن بلد ، مش علشان اسقط مبارك بس ، علشان كرامة ، علشان تعذيب الاقسام ، عشان حق التظاهر ، عشان العيش ، عشان ولادي ، وعشان وعشان ، مش عشان يموت شباب طوال السنتين واخرهم انت. محمود وقف واخذ يصرخ ويطرق ابواب القصر ويبكي بكاءاً شديداً وهو يقول : لا انا عايش ، انا مامتش ،انا عايش ، انا عايش . واقترب منه الرجل وقال له : مش كنت لسه بتقول انك عاوز تموت واللى عند ربنا احسن ؟ ايه اللى جرى بقا !! اهو انت ميت دلوقت. محمود وهو ينظر له نظرة فقدان الأمل والدموع تملأها : انا مش بصرخ وبعيط علشان مت ، بالعكس انا كنت عارف اني ميت ميت ، انا بعيط علشان سيبت امي لوحدها وهي مالهاش غيري ، وكمان يوم جنازة الجندي حلفت عليا وقالت لو نزلت مظاهرات تاني قلبي وربي غضبانين عليك .. يعني انا دلوقت ميت بلاش وامي كمان غضبانة عليا .
" تدفقت الدماء انهاراً ، و اطاحت بنا امواجاً ، لتلقى الجثث مرساها "