جاءتني فكرة هذا المقال بعد حديث مطول ومحتد دار بيني وبين إحدي صديقاتي المفكرات العزيزات حول الفارق بين تعدد الجوانب والشخصيات الموجودة بالشخصية الواحدة لدينا وبين النفاق ؛ حيث تري صديقتي أن تعدد الشخصيات التي قد نتعامل بها مع عدة أشخاص هي درب من دروب من النفاق وأن الإنسان لابد أن يعيش بذات الشخصية مع مختلف المواقف بينما أتبني وجهة نظر مضادة مفادها أن هناك فرق شاسع بين النفاق وبين كثرة وتباين شخصياتنا التي تظهر في عدة مواقف أو تتنوع وفقا لإختلاف من نتعامل معه ."
وعلي أية حال إنني احترم كافة وجهات النظر المعارضة وأقبل دائما بالتعددية والإختلاف في الآراء لأنني أراها كالتوابل المضافة للحياة.
ولأن حق الرد مكفول فقد قررت كتابة المقال لأبين وأفند وجهة نظري تجاه الشخصيات المتعددة والوجوه الكثيرة الموجودة بشخصيتنا ، وبادئ ذي بدء لي أن اعترف بأنني امتلك وجوها كثيرة ومتعددة تمكنني من المراوغة والتعامل والتكيف مع - علي الأقل - معظم أنواع بني البشر.
وحتي لا تختلط علينا المفاهيم ؛ لا شك من أن النفاق صفة ذميمة وقبيحة ، و سحقا لمن وُجدت بطبعه أو لمن حاول أن يتخذها وسيلة في النجاح ؛ لأن المنافق - كما أراه - شخص مضطرب وآفاق ووصولي ؛ لذا فهو دائما يكون محط إحتقار الجميع لأنه يرتدي أقنعة كثيرة يحاول من خلالها أن يحقق مآرب شخصية أو يوقع البغضاء بين الناس كي يحقق هدفه ، كما أنه بتنكره بأكثر من شخصية يسعي دائما للحصول علي مبتغاه دون النظر ما إذا كان سعيه قد أدي إلي إيذاء أحدهم أم لا.
كما أن المنافق يظن نفسه ذكيا أو ماكرا لأنه يستطيع أن يخدع الكثيرين بكلامه المعسول أو بمحاولته التقرب من أحدهم كي يحقق ما يصبو إليه من معين لا ينضب من رغباته الدنيوية الشهوانية.
أما الشخص المتعدد الشخصيات مثلي – لا أعني بالطبع الإنفصام في الشخصية - فهو شخص يختلف كليا عن المنافق ؛ حيث أراه شخصا متميزا وخلوقا وقادر علي إقامة علاقات إجتماعية ناجحة بلمح البصر وحتي اقطع الشك باليقين وأبرهن علي وجهة نظري سوف اتخذ من نفسي نموذجا علي الشخصية التي تشتمل بداخلها علي عدد لا بأس به من الشخصيات.
و بلا نفاق وبلا مراوغات فلأبين منظوري الخاص في هذا الموضوع بكل صدق و إقتناع تام بما أقول ولكم أن تتفقوا أو تختلفوا معي كما تشاؤون ، كما إنني أري أن للتعددية الشخصية فوائد جمة أهمها : أولا : إرضاء العميل هدفنا : بعيدا عن عمل العلاقات العامة والدعاية والإعلان فإن رضاء الناس علي إختلاف أنواعهم أو وظائفهم أو شخصياتهم هو هدف أي إنسان حتي يستطيع تحقيق التواصل والنجاح في هذه الحياة الدنيا كما أن رضاء الناس يتحقق من خلال الحديث معهم حول ما يحبونه ومشاركتهم الوجدانية و إستيعاب شخصياتهم بكل فيها من صفات إيجابية أو سلبية وهذا لن يتأتي إلا من خلال إمتلاكك لشخصية متعددة الشخصيات حتي تستطيع التكيف مع مختلف شخصيات البشر ، فلكل شخصية مفتاح وعليك أن تكون صانع الأقفال والمفاتيح من خلال شخصياتك المتعددة و أن تخرج المفتاح الملائم لكل شخصية حتي تستطيع فتحها ومجاراتها.
ثانيا : مرونة التعامل مع شخصيات متعددة : حيث تحفل حياتنا بأنماط متعددة الشخصيات من أصدقاء وأقارب ومعارف و رؤساء عمل و أساتذة ، فتخيل أنك تمتلك شخصية مرنة وتحتوي علي العديد من القوالب الجاهزة التي تظهرها لكل فرد وتلائم كل شخصية من هذه الشخصيات المختلفة الملامح والمعالم والطبائع.
ثالثا : إمكانية أن تتعامل مع الشخصيات المعقدة والمركبة : كما يقولون ( الطيور علي أشكال تقع) وبالتالي سوف تجد نفسك منسجما مع الشخصيات المركبة التي يراها الناس صعبة المراس و سوف تجد في التعامل مع هذه الشخصيات تحديا ذهبيا لك كي تقوم بفك طلاسمها والتعرف علي أبعادها التي لا تنتهي.
رابعا : تعدد الشخصية بمثابة كروت ذهبية : ربما تجد صديقا لك يمل سريعا ومن ثَم تجد نفسك مضطرا لأن تقضي علي حدة الملل لديه فتُظهر له شخصية جديدة بك في كل مرة يلاقيك بها وعندئذ تحدث لديه كما اعتقد حالة من التشبع ( لأنه وجد في صديق واحد مائة صديق بمائة شخصية ) أو قد تجد شخصا لا تستطيع تكوين إنطباع محدد عنه وبالتالي يمكنك أن تجرب معه شخصياتك المتعددة حتي تستطيع التوصل للشخصية الملائمة التي تريحه في التعامل.
خامسا : وداعا للملل من النفس : أجد بعض أصدقائي يشتكون من شعورهم بالملل من الحياة ومن الأشخاص المحيطين بهم بل والملل من أنفسهم ..نعم فالشعور بالملل من النفس أمر وارد لأنك تشعر بأن شخصيتك تنعكس علي حياتك وتصنع أحداثها ..فإذا امتلكت شخصية أحادية البعد سوف تجعل حياتك تسير علي وتيرة واحدة لا تتغير وبالتالي سرعان ما تفقد إنفعالك بهذه الحياة وحماسك لها لأنك تجد نفسك تعايش حياتك بجانب واحد لا يتطور ولا يشبع رغباتك ومواقفك الحياتية المتباينة .
بينما علي النقيض إذا امتلكت شخصية متعددة الأطوار سوف تجد أن كل يوم يمر عليك بمفاجآت كثيرة وتقلبات متنوعة تضفي علي حياتك قدرا من الحيوية والتفاعل مع الناس والمواقف.
سادسا : تعددية الشخصية ليست نفاقا أو قناعا للتخفي : لصديقتي ولمن يري في التعددية نفاقا أود أن أوضح لهم أن النفس الإنسانية مليئة بالعديد من التقلبات والأحوال المزاجية المختلفة والصراع والشد والجذب بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبين الآخرين ومن ثَم نجد شخصيات مختلفة تنبثق عنَا و تظهر وقت الغضب أو وقت الفرح أو وقت الحزن أو وقت الحب وإلي ذلك ومن الصعب علي الإنسان أن يعيش بذات الشخصية في كل الأوقات وفي كل الأماكن ، حتي وإن استطاع علي الأقل سوف يظل جانبا بشخصيته لا يعلمه أحد سواه.
سابعا : للمشككين في وجود أو جدوي تعدد الشخصية : أود أن اوجه انتباه من يؤكد علي أننا نعيش بشخصية واحدة أو من المفترض أن نعيش بشخصية واحدة إلي أن هذا أمر في غاية الصعوبة فحتي تحليل فرويد - وهو من رواد علم النفس – للشخصية الواحدة التي نمتلكها أنها تنقسم لثلاث أقسام: الهو / الهي ، الأنا ، الأنا المثالي ..فأنَي لنا أن نؤكد علي الشخصية الواحدة وأننا نمتلك بداخل هذه الشخصية الواحدة ثلاث شخصيات تتصارع بداخل كل منَا وتتجاذبنا يمينا ويسارا؟
ولمن يري في تعدد الشخصية مرضا نفسيا يشبه "فصام الشخصية" أوجه عنايته بأن المصابين والمرضي " بانفصام أو انفصال الشخصية المعروف علميا باسم التشيزوفرينيا " لا يدرون أن لديهم أكثر من شخصية أو أكثر من حياة يعيشون بها ..فما بالك بأنني اعترف لك عزيزي القارئ بأني لديَ شخصيات متعددة اتعايش معها وتتعايش معي اتفاعل معها ..أسألها وتجيبني في حالة من المزيج الجسدي و النفسي المتميز؟
أما لمن ينظر لتعددية الشخصية أنها نفاقا فأرد عليه بأن النفاق يؤدي دائما وأبدا إلي إيذاء الآخرين بصورة مادية أو معنوية والمنافق مهما ظن نفسه داهية سوف تكشفه الأيام والمواقف عاجلا أم آجلا أما الشخص المتعدد الشخصيات فهو لا يضمر شرا لأحد ولا يخفي شيئا وإنما يسعي لاستقطاب كافة أنواع الناس والفوز برضاهم واستمالتهم بما أوتي من إمكانيات شخصية مبهرة.
وإنطلاقا من ذلك أري أن المنافق مجرد شخص يرتدي أقنعة كثيرة ليخفي علة لديه أو ليحقق مكسبا شخصيا علي حساب الآخرين دون مراعاة مشاعرهم أو ظروفهم بينما الشخص المتعدد الشخصيات هو شخص يعيش بوجوه متعددة هذه الوجوه يستغلها كي يكتسب صداقات الآخرين وكي يُرضي الناس ويحاول كسب ودهم ومحبتهم دون أن يستغلهم لأنه لا يخفي تعدده لشخصيته بل يبوح بهذا التعدد ويعترف به علي مرأي ومسمع من الجميع ويفخر بهذا التعدد كما افخر به واحمد الله علي إمتلاكي لهذه الشخصية المركبة المتعددة الملامح والقسمات والخصائص..لأنني دائما أري نفسي ليست فقط ثلاثية الأبعاد بل مئوية الأبعاد.
والسؤال الهام الذي عليك أن تطرحه علي نفسك بعد هذا المقال هو هل أرتدي قناعا يخفي لدي أمرا أم أُظهر وجها جديدا بشخصيتي؟؟ والإجابة سوف تفرق كثيرا في حياتك.