عندما يأتى الحديث عن أجهزة المخابرات المصرية فى عهد الرئيس أنور السادات.. يتأرجح الكلام دوما ما بين قمة النجاح.. وقمة الفشل.. فنفس الأجهزة التى حققت أكبر انتصار عسكرى وسياسى على إسرائيل فى نصف قرن هى نفس الأجهزة التى فشلت فى تأمين رئيس جمهورية.. وشهدت تسجيل لحظات اغتياله أمام الكاميرات.. أنصار المخابرات ينسون لها فشلها ولا يذكرون لها إلا دورها الوطني.. المضيء.. بينما لا يفكر أعداؤها إلا فى الجانب المظلم منها.. ولا يكادوا يذكرون لها نصرا.. حتى يذكرونها بفشل لاحق لهذا النصر.
كان هذا هو ما يفعله المؤرخ العسكرى الأمريكى أوين إل سيرس فى كتابه «تاريخ المخابرات المصرية».. كان بين كل فقرة وأخرى تتحدث عن انتصار للمخابرات المصرية فى عهد السادات، يسارع إلى التذكير بفشلها فى حمايته من الاغتيال.. وهو ما يعطينا سببا لقراءة كل ما يكتبه بحذر.. نابع أساسا من كون ما يكتبه يعبر عن وجهة النظر، والمصالح الأمريكية.. حتى وإن لم يكن الجانب المصرى قد أوضح كل الحقائق المتعلقة به بعد.
قال أوين سيرس إنه كان من الواضح أن السادات ينوى بعد حرب 1973 أن ينقل مصر لصلات أكثر قربا من الغرب.. وانعكس هذا التقارب بالطبع على علاقات أجهزة المخابرات ببعضها.. ولأول مرة منذ الخمسينيات عرفت المخابرات الأمريكية صلات وثيقة مع المخابرات المصرية تضمنت تبادل الخبرات وتكنولوجيا المعلومات.. والتدريب والعمليات المشتركة.. ومن المعروف أن مصر كانت إحدى أولى الدول التى وقعت على خطة واشنطن لدعم المجاهدين الأفغان.
وفى منتصف السبعينيات صارت مصر أولوية بالنسبة لعمليات التجسس والتأثير الذى تشنه المخابرات المركزية.. وصارت أمريكا تدرب الحرس الشخصى للسادات وتقدم له تقارير عن التهديدات الأمنية التى يمكن أن يتعرض لها من ليبيا وأثيوبيا وسوريا وإيران.. ووصل الأمر إلى أن التكنولوجيا الأمريكية رفعت قدرة المخابرات المصرية من مراقبة 1200 خط إلى مراقبة 16 ألف خط فى نهاية السبعينيات.. وفى المقابل ساعدت المخابرات المصرية المخابرات المركزية على جمع معلومات عن البلاد التى تثير قلقا مشتركا وعلى رأسها ليبيا.
لكن.. لم يكن الود صافيا بين القاهرةوواشنطن فى مجال التعاون المخابراتي.. فقد كان ذلك التعاون من وجهة نظر البعض فرصة فتحت الباب أمام المخابرات الأمريكية من أجل مزيد من تجنيد المصريين كجواسيس.. والواقع أن اختراق المخابرات الأمريكية لمصر وصل فى بداية الثمانينيات إلى حد أن البلاد كانت «ملغمة الكترونيا بالعملاء من قمتها إلى قاعها».. أما المخابرات المصرية.. فاعتبرت أن مخاطر اختراق المخابرات الأمريكية ثمن فادح للتعاون معها.
وفى الوقت الذى كانت المخابرات المصرية تزداد اقترابا من الغرب.. كانت علاقاتها تتدهور بالمعسكر الشرقي.. وخاصة الاتحاد السوفيتي.. وعلى الرغم من أن السوفيت كان لديهم جواسيس فى الجيش المصرى وحتى فى مكتب السادات.. إلا أنهم كانوا يفعلون هذا بمنتهى الحذر خوفا من أن يؤدى الكشف عن أحد جواسيسهم إلى مزيد من التدهور فى العلاقات المصرية السوفيتية.
على أن نقطة التحول الحقيقية فى علاقات أجهزة المخابرات كانت بعد الغزو السوفيتى لأفغانستان.
وافقت مصر على زيادة التعاون مع المخابرات الأمريكية من خلال نقل وشحن الأسلحة للمقاومة الأفغانية بالتعاون مع المخابرات المركزية والسعودية ومنحت الولاياتالمتحدة مزيدا من المرونة فى عبور الموانئ والمطارات المصرية لتسهيل توصيل الأسلحة وغيرها من المعدات للمجاهدين فى أفغانستان.
والواقع أن أحد أهم اللاعبين الذين تعاملوا مع المجاهدين فى أفغانستان كانوا الإخوان المسلمين الذى عملوا بشكل قريب مع الحكومة المصرية.. لتوفير المتطوعين والعمل على نقلهم إلى أفغانستان.. وكان هذا التعاون الصامت يمثل تغييرا جذريا فى تعامل الحكومة مع الإخوان المسلمين.. فعلى الرغم من أن السادات أعلن صراحة أنه لن يسمح بأى شكل من أشكال التحدى المباشر لسلطته.. إلا أنه خفف من ضغط المخابرات والأجهزة الأمنية على أنشطة الإخوان.
على أن السؤال الأهم الذى يطرح نفسه عند الحديث عن المخابرات المصرية فى عهد السادات هو : ما حجم ما كانت تعرفه الأجهزة الأمنية عن محاولة اغتيال السادات التى تحولت واحدة من أشهر أمثلة الفشل الأمنى فى التاريخ؟
يلخص المؤرخ الأمريكى كل ما يعرفه عن وقائع اغتيال السادات فيما يلي: بدأت الأجهزة الأمنية فى يونيه 1981 تراقب مشتبها رئيسيا فيه من تنظيم الجهاد هو نبيل عبد المجيد المغربي.. كان جزءاً من خلية تقوم بتجميع الأسلحة وتدريب الشباب فى معسكرات صحراوية.. وكان على اتصال بضابط سابق فى الجيش هو عبود الزمر.. وسجلت الأجهزة الأمنية لقاءات بين المغربى وغيره من عناصر خلايا الجهاد وهو يتحدث عن ضرورة الحصول على أسلحة وضرورة أن يضع رصاصة فى قلب السادات.
ألقى الأمن القبض على المغربى وشريك له فى 26 سبتمبر وفتشت شقة فى الجيزة وجدوا فيها رسائل مشفرة وأسلحة وجدولا بتحركات السادات وخط سيره.. وفى التحقيقات كشف المغربى عن دور عبود الزمر بوصفه العقل المدبر للخلية وخبير الأسلحة فيها.. وقدمت تقارير المتابعة الأمنية للسادات لكنه لم يبد مهتما بها..
وفى 6 أكتوبر 1981 عانت مصر واحدة من أسوأ تجارب الفشل الأمنى فيها عندما نجح ضابط جيش خاضع للمراقبة، هو خالد الإسلامبولى فى اختراق كل الدفاعات التى كانت مقامة حول الرئيس السادات.. دخل هو ورفاقه إلى العرض العسكرى الذى كان يحضره الرئيس .. وأقنع الناس أن زملاءه هم ضباط أمن يتفقدون تأمينات العرض.. وكان اغتيالا رآه العالم مسجلا على الكاميرات رغم أن أحدا لم ير الحرس الخاص الذى دربته المخابرات المركزية وقتها.
لكن مما لا شك فيه أن المخابرات المصرية فى عهد السادات قد لعبت دورا مهماً فى الحفاظ على أركان رئاسته.. وبين عامى 1970 و1971، ساعدته المخابرات العسكرية على أن يحافظ على قوته فى مواجهة عدة منافسين أقوياء له لهم صلة مباشرة بجهاز المخابرات العامة.. وساعدت المخابرات السادات أيضا على أن يدعم الانتصار السياسى الذى حققته حرب 1973.. تلك الحرب التى كانت انتصارا حقيقياً لعمل المخابرات المصرية من جمع للمعلومات وفهم للعدو.
والواقع أنه فى السنوات التى أعقبت الحرب.. وخاصة بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل لعبت الأجهزة الأمنية دورا فى تأمين مصر والرئيس السادات من العديد من الأعداء فى الداخل والخارج.. إلا أنها لم تستطع فى النهاية حمايته من الاغتيال.. فعلى الرغم من أن الأجهزة الأمنية المصرية قد نجحت فى اختراق جماعة الجهاد وحذرت حتى من التهديد الأصولى على حياة الرئيس.. إلا أنها لم تستطع اعتقال المدبرين الأساسيين: عبود الزمر وخالد الإسلامبولى فى الوقت المناسب.. وإن كان معظم اللوم فى هذه الحالة يقع على المخابرات العسكرية التى فشلت فى مراقبة نمو التطرف فى الجيش. أو حتى زيادة تأمين الرئيس خلال عرض المنصة.
كان ميل المخابرات فى عهد السادات نحو الاهتمام بالشأن الداخلى أكثر من اهتمامها بالشأن الخارجي.. فباستثناء تدخل مصر فى أفغانستان.. لم تقم المخابرات بعمليات تدخل خارجى كتلك التى وصلت إلى ذروتها فى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات.. وكان هذا راجعا بالطبع إلى حدوث تغير فى الأهداف القومية والسياسة الخارجية التى تراجعت عن طموح عبد الناصر فى تصدير الثورة ونشر القومية العربية.. وصاحب هذا التراجع حدوث تغيير فى حجم تأثير أجهزة المخابرات المختلفة فى مصر.
لقد كانت المخابرات العامة بقيادة صلاح نصر هى المسيطرة حتى عام 1967.. بينما أخذت المخابرات العسكرية الزمام فى الفترة بين عامى 1967 و1973.. بسبب الحرب الدائرة مع إسرائيل فى المقام الأول.. ثم تراجع نفوذ المخابرات العسكرية من جديد بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.. وإن كان اغتيال السادات يمثل فشلا ذريعا وقاتلا لكل الأجهزة الأمنية فى مصر على اختلافها.
وكانت المسئولية تقع على خلفه حسنى مبارك.. لكى يعيد الأمور إلى نصابها.
وبالطبع.. كان من المتوقع أن تكون السمة المميزة لأوائل عهد مبارك هى الشائعات.. ونظريات المؤامرة.. والتحقيقات السرية فى مدى ولاء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية المختلفة.. وعلى الرغم من أن مبارك حاول أن يعطى انطباعا بقدرته على القيادة الحكيمة إلا أن كل المؤشرات كانت تشير إلى العكس.
لم يغير مبارك الكثير من السياسة الخارجية لسلفه.. وظل التعاون بين المخابرات الأمريكية والمصرية قائما.. على الرغم من أنه شهد عدة أزمات فى الثمانينيات وعلى رأسها أزمة سفينة أخيل لورو.. لكن.. ظلت الولاياتالمتحدة تمد مصر بتكنولوجيا متقدمة فى المجال المخابراتي.. وفى الوقت الذى خفف فيه مبارك من دور مصر الرسمى فى حرب أفغانستان.. استمرت حكومته فى بيع الأسلحة والمعدات اللازمة للمجاهدين الأفغان.. مقابل تدفق الأموال السعودية والأمريكية إلى خزائن الدولة..كما أن الأجهزة الأمنية المحيطة به كانت ترى فى قضية الجهاد فى أفغانستان مخرجا مهما لتفريغ البلاد من أقوى خطر على مبارك وهو خطر التهديد الأصولي.