البلطجة فى مصر ليست أى كلام والسلام، كما يتصور السذج، إنها تحتاج إلى مجلدات من الأحجام الكبيرة التى قتلت الجاحظ حين سقطت فوق رأسه، مجلدات قد لا تتسع لها مكتبة الإسكندرية بجلالة قدرها، الغريب أن البلطجة فى مصر تطورت أسرع - بمراحل - من الثقافة أو الحس الحضارى بطبيعة العصر أو الحد الأدنى من العقلية العلمية. سأكتفى بالحديث هنا عن الفتوة الخفافى الذى كان يعمل فى كباريهات القاهرة التحتية، كبودى جادر لصاحب الملهى أو لبنات الليل، وهو مكلف أيضاً بحماية الراقصة وطالبها المتمرس الذى غالباً ما يكون هو نفسه مدير أعمالها، فضلاً عن أشغال أخرى يعرفها الجميع، وقد جرت العادة على أن يكون الفتوة الخفافى من خريجى السجون فى قضايا الآداب أو المخدرات، أو مخبرى المباحث الذين يتقرر الاستغناء عن خدماتهم لأسباب تفضل سائر الاطراف عدم الخوض فيها، أحياناً يلعب الطبال الدورين معاً، الفتوة الآخر غير الخفافى هو من يفرض قانونه على الناس فى الحوارى الفقيرة التى لا سند لها، وعلى ضابط الكراكون الذين كثيراً مايحتاجون إليه فى بعض المهام القذرة، لكن تلك حكاية أخرى يطول شرحها.
المهم الآن هو أن كل النصوص التى تناولت خبايا القاهرة تشير إلى أن الوضع استمر هكذا منذ بدايات القرن الماضى حتى الآن، وأن بعض التجار أو كبار المسئولين بالحزب الوطنى أو التنظيمات ذات الأجنحة العسكرية استعانوا بالفتوة الخفافى لتصفية الحسابات فيما بينهم، أو للتخلص من الخصوم أو ضد العشيقات اللائى كن يتنقلن بين أحضان هذا وذاك دون سابق إنذار، ولا تزال ذاكرة المصريين تحتفظ منذ عدة سنوات بتفاصيل جريمة قتل لمطربة مغمورة بالأسلوب التقليدى لكباريهات القاهرة التحتية، إلا أن الأمر شهد إجمالاً منذ تلك المرحلة مجموعة من التحولات النوعية الكبرى التى يملكها أو يديرها- مباشرة أو بالوكالة- أصحاب النفوذ، الأمر الذى سرعان ما أدى إلى انحسار فرص العمل بالنسبة لسلالة الفتوة الخفافى التى بدأت فى الانقراض من على خريطة القاهرة الليلية.
ولم يمض وقت طويل حتى فوجئت القاهرة بالفتوة الخفافى يتسلل بأعداد متزايدة إلى ساحات الإعلام، حدث هذا من الأبواب الخلفية على مدى ثلاثين أو أربعين عاماً، الحملات الانتخابية الدائرة حالياً من أجل كرسى الرئاسة هى الدليل الأنصع على تورم الظاهرة، امتلأت بالفتوة الخفافى القنوات والصحف الرسمية منذ شملتهم قيادات الحزب المنحل والحكومة ورجال الأعمال بعين الرعاية، وكانوا وثيقى الصلة على الدوام بأجهزة الأمن، كذلك فلقد تمكنوا من التسرب إلى الكثير من الفضائيات الخاصة غير المستقلة، الى أن ظهرت على الساحة أيضاً الفتواية الخفافى التى لا تقل خطورة لكن على حريمى.
المظهر الخارجى تغير إلى حد ما، أصبح الفتوة الخفافى مهندماً على طريقة السماسرة أو القوادين، أو مندوبى المبيعات، لكن التركيبة الداخلية ظلت كما هى لا تتغير، لم يعد الفتوة الخفافى يعمل كبودى جارد لصاحب الملهى، أو لبنات الليل، ولا صار من مهماته الأساسية حماية الراقصة وطبالها، أو تشويه وجوه أعداء التجار أو المسئولين أو العشيقات بماء النار، الأدوات المستخدمة طرأت عليها بعض التعديلات الطفيفة، الكلمات الجارحة لعبت دور المطاوى، بينما حل الخوض فى أعراض كل من يتصدون إلى النظام البائد أو فضلاته أو أكاذيب الإخوان مكان السيوف أو الجنازير التى انتقلت الى الأذرع السرية، الشتائم التى لا تليق إلا بكباريهات القاهرة التحتية، أو توزيع الاتهامات جزافاً على الوطنيين، كالتكفير أو التبعية لجهات أجنبية، جاءت بدلاً من السلاح الأبيض أو البونية الحديد أو رقبة الإزازة، لا شىء تغير تقريباً فى الفتوة الخفافى بعد 25 يناير، احتفظ بنفس اليونيفورم البغيض الذى يرتديه من الداخل، الأغلبية العظمى من المنتمين لهذه الطائفة اختاروا الانضمام أفواجاً إلى الإخوان، نظراً للتطابق المذهل فى نوعية التكوين.