دق جرس المدرسة معلناً انتهاء اليوم الدراسى، فتعالت صيحات فرح التلاميذ، واندفعوا يغادرون الفصول، وكأنهم سجناء فتحت لهم أبواب الزنزانات، وخرجت معهم من بوابة مدرسة «الخديو إسماعيل» العتيقة إلى شارع المبتديان. لم يكن معى فى جيبى سوى قرش صاغ وحيد، وكان علّى أن أختار بين أمرين، فإما أن أدفع القرش ثمناً لتذكرة التروماي، أو اشترى به «باكو» شيكولاتة، أتلذذ بحلاوتها، وأعود إلى البيت على الأقدام، وحزمت أمرى بسرعة، واخترت شراء الشيكولاتة بالطبع!.
بالقرب من شارع المواردى وعلى الرصيف استوقفنى المشهد الغريب، صعلوك يقف أمام ترابيزة خشبية قديمة ويمسك بين يديه ثلاث ورقات من أوراق الكوتشينة، وبمنتهى الخفة يقوم بخلط الأوراق الثلاث، ثم يلقيها على ظهرها على الترابيزة!.
كنت أنا جمهوره الوحيد، ولا أعرف كيف تسمرت أمامه ولم تكن أعوامى التى لم تبلغ الخمسة عشر، تضمن معلوماتها شيئاً عن أن هناك لعبة اسمها «الثلاث ورقات»!.
نظر الصعلوك فى عينى مباشرة..
وسألني: الحلوة فين؟
كنت لم أزل صبياً ساذجاً.. وكان أهلى يمنعوننى من الحديث مع الغرباء، فلزمت الصمت ولم أرد على سؤال الرجل، لكنى ظللت أمامه واقفاً، وفى يدى قطعة الشيكولاتة، لم أقص غلافها بعد!.
قال لى بابتسامة غامضة: الحلوة يعنى البنت.. هى فين فى الثلاث ورقات؟
وكان قد حدث بالفعل أننى شاهدت وبكل وضوح، ورقة البنت تهبط فى يديه بين الورقتين الأخريين، شفتها بعينى وكنت متأكداً!
ولا أعرف ما الذى جرأنى أخيراً..
- وجعلنى أرد: فى الوسط!
قال لى الصعلوك: ارفعها.. شوفها بنفسك!
مددت يدى ورفعت الورقة، فإذا بها الحلوة بالفعل.
اعتدل الصعلوك فى جلبابه القديم الرث، وكان لا يزال ينظر فى عيني.
وقال لي: تلعب؟
لم أرد وفوجئت..
فعاد يقول: إذا لعبت بقرش تكسب قرشين.. وإن لعبت بقرشين تكسب أربعة.. وأنت وحظك!
أردت أن أتهرب من الورطة..
- فقلت له: أنا ما عنديش فلوس!
شعرت أن الصعلوك أصابه الإحباط، لكنه نظر إلى يدى وشاهد «باكو» الشيكولاتة.
فقال لي: تلعب على الشيكولاتة دي؟
لم أعرف بماذا أرد أو أتصرف..
فأسرع يقول: ده أنت شاطر.. وبتعرف فين الحلوة من أول مرة.. ولو كسبت تاخد قرش فوق الشيكولاتة!
كان أول إغراء أتعرض له فى حياتي.. ولم يكن إغراء بسيطاً، وفى نفس اللحظات.. كان الصعلوك قد خلط الأوراق الثلاث - ثم ألقى بها فى الهواء. وبأم عينى شاهدت ورقة البنت تهبط إلى اليمين.
أشرت إلى البنت
- وقلت: هى دي!
رد الصعلوك: ارفعها بنفسك.. بس حط عليها الأول الشيكولاتة!
فعلت لكنى فى نفس اللحظة التى كنت أكشف فيها الورقة فى نفس اللحظة كان الرجل يمد يده ويخطف باكو الشيكولاتة.
أما اللحظة التالية فكانت عندما رفعت الورقة، فإذا بها لا بنت ولا يحزنون، وإنما ورقة بيضاء فارغة!
وكانت أول مرة فى عمرى أجرب مشاعر الخديعة والإحباط، فها هو باكو الشيكولاتة، ملكى والذى كان فى يدي، فى غمضة عين طار وأصبح فى يد الصعلوك!
وقفت أمامه كالمشلول والدموع فى عيني، تخجل من الهبوط.
نظر إلى الصعلوك فى انتصار وعصبية.
وصرخ فى وجهي: مش خسرت.. أمشى من هنا!
ومشيت..
لكنى يبدو أننى لم أمش طوال عمرى خطوة واحدة، أنا مازلت فى نفس المكان رغم تغير الزمان، مازلت فى مواجهة الصعلوك «بتاع الثلاث ورقات»!
لكنى لا أجده على رصيف شارع المواردي، وإنما على صفحات الصحف صباح كل يوم، وعلى شاشات الفضائيات فى المساء، كلهم «بتوع الثلاث ورقات» لكنهم لا يريدون أن يخطفوا ويسرقوا منى قطعة شيكولاتة!