لم أكن لأتوقع أن تستحوذ قضية الضربة الأمريكية المنتظرة لسوريا كل هذا الاهتمام داخل الشارع المصري، ففي ظل توترات الإرهاب الإخواني وتحالفاته مع جماعات وتنظيمات الاسلام السياسي التي تملأ تغطياتها ومتابعاتها معظم الشاشات الفضائية المصرية، استبعدت تماما أن ينشغل المصريون بأمر القرار الأمريكي بضرب سوريا، حيث لم يبد خلال الفترة الماضية أي اهتمام بمتابعة الثورة السورية ومسارها، فكانت المفاجأة حين اشتعلت خناقة كبرى بين رواد مقهى شعبي في إحدى المناطق الشعبية بالجيزة، بدأت بحوار بين ثلاثة وامتدت إلى تقريبا كل الموائد، الجميع يرى أن بشار الأسد ونظامه مجرم وقاتل، لكن هذا ليس مبرراً بالنسبة لهم لضرب سوريا والتآمر عليها لتفتيتها وتقسيمها وتحويلها إلى عراق أو ليبيا أخرى، تقبض عليه الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها جماعة الإخوان وتنظيم القاعدة. وحمل النقاش تخوفا من أن تلك الضربة سوف تشكل تمهيدا لضرب مصر، ليس من الأمريكان والأوروبيين الذين يدعمون مؤامرة جماعة الإخوان وحلفائها الآن لتفكيك وتقسيم مصر، بل من تمكن الجماعة وحلفائها من سوريا وجعلها قاعدة لتهديد الأمن القومي لمصر، وهكذا تصبح مصر صيداً سهلا للعمليات الإرهابية التي تبرر لإسرائيل وأوروبا وأمريكا الاستيلاء على قناة السويس وتوطين فلسطينيي غزة في سيناء، وتقسيم مصر إلى جنوب مسلم وشمال قبطي، أو العكس، المهم أن يكون تضرب الاضطربات والقلائل كيان الدولة المصرية وتفقدها وحدتها. ويلقي المصريون باللائمة على الدول العربية وجامعة الدول العربية، بل يذهب بعضهم إلى أن هناك الكثير من هذه الدول تتعمد توافقا مع الإرادة الغربيةوالأمريكية أو عنادا ضد الأسد وحزب الله وإيران، تدعم ضرب سوريا وتفكيكها، لكن هذا سوف يعود على هذه الدول بما لا تتوقعه من كوارث، فالدائرة تدور و"الحجر الدائر لابد من لطه"، وإعادة تخطيط المنطقة سوف يمضي إلى آخره وفقا للرؤية الأمريكيةالغربية، وأن ما فعله الاستعمار الغربي بالمنطقة قبل خمسين عاما سوف تفعله أمريكا لكن كما هو واضح من السيناريو ستفعله بالتفتيت من الداخل، لتبدأ اعترافات الأممالمتحدة والدول الغربية وأمريكا، بدولة طرابلس ودولة برقة، ودولة بنغازي (ليبيا)، ودولة نجد ودولة الرياض، ودولة مكة والمدينة وغيرها (السعودية)، ودولة الخرطوم ودولة دارفور ودولة الجنوب (السودان)، ودولة سيناء الفلسطينية، ودولة القاهرة المسيحية ودولة المنيا القبطية وهلم جرا (مصر) وهكذا في سوريا والعراق والخليج.. إلخ، لتتحول المنطقة العربية إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، وتبدأ إسرائيل دولتها الكبرى من النيل للفرات. هذا الجدل الذي يشغل الشارع المصري، والذي قد يراه البعض تهويما وهرطقة، يكشف برأيي نضجا في الوعي الشعبي وإحساسا بأبعاد الخطر المحدق بالبلاد، وفي المقابل يلقي الضوء على الكثير من زيف مواقف بعض النخب السياسية والثقافية التي يلتزم كثيروها جانب الحياد تحسبا لمصالحه وأهدافه، كما يؤكد انفصالها عن المجتمع. من لا يصدق ما نقول فعليه أن يمر في الشارع، لا يوجد مقهى بطول البلاد وعرضها ليس فيه تليفزيون يتابع من خلاله الرواد ما يجري من قناة لأخرى من خلال القنوات الإخبارية المعروفة، لم يعد أحد يتابع إلا ما يجري على الساحة السياسية، تراجعت مشاهدة قنوات الأغاني والأفلام والدراما، وهكذا الأمر بالنسبة للإنترنت حيث ارتفعت نسبة متابعة المواقع الإخبارية والتعليق على ما تنشره وكذا تنشغل مواقع التواصل الاجتماعي كتويتر والفيسبوك.. فالحوار الذي أشرت إليه آنفا جرى أثناء متابعة المؤتمر الصحفي الذي عقده جون كيري وزير الخارجية الأمريكي وقرر فيه أن أمريكا ستضرب سوريا، لتنفجر الضحكات الساخرة المريرة والتهكمات واللعنات مع كل جملة في وجهه ووجه أمريكا وعملائها في المنطقة العربية الذين يأتمرون بأمر هذه الهرتلات عن الأمن القومي الأمريكي وحماية المصالح الأمريكية وما شابه. هذا الوعي هو ما رسخ الدعم الشعبي للجيش المصري والشرطة المصرية في مواجهتهما للجماعات الارهابية التي تقودها جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي، وأسقط شيوخ الفتنة ودعاتها من أمثال يوسف القرضاوي ومحمد حسان ومحمد عبد المقصود ومحمد حسين يعقوب وغيرهم عرايا في وحل الخيانة للوطن والدين معا. إن ما أخشاه حقا أن الضرب الأمريكيةالغربية ضد سوريا سوف تترك جرحا عميقا لدي المصريين سوف يمتد ليلحق بجرحهم الذي لم يطب بعد على ما جرى للعراق، ليكون شقا عميقا يصعب مداواته، شقا سوف تسقط فيه الدول العربية باعتبار أنها ساهمت في ذلك بضعفها وهوانها وخنوعها، ولم تستطع أن تلملم نفسها وتنحي خلافاتها جانبا وتحل مشاكلها بنفسها دون تدخل خارجي، بل استسلمت لنداءات التحريض والأوامر الغربيةالأمريكية وأمدتها بالمال وتركتها تستبيح المجتمعات العربية والإسلامية تحتل بعضها وتبني في بعضها قواعدها العسكرية وتصنع في البعض الآخر بؤر الارهاب، وبالنهاية تم تكبيل إراداتها لحساب المصالح والأهداف الغربيةالأمريكية الاسرائيلية. وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للمصريين فلا أظن أن الشعوب العربية الأخرى بعيدة، فتحت السطح القمعي الممارس ضد حرية التعبير هناك بركان يغلي، فقد بلغ الهوان ذروته، ولا أستبعد انفجارا يخلخل الأرض تحت أقدام الكثير من الأنظمة، وتقاتلا داخليا على السلطة، وهذا يهيئها للتدخل الغربي الأمريكي وتقافز أصحاب المصالح من العملاء والطامحين للسلطة. لا أحد يقل لي إن العرب غير قادرين على حل القضية السورية ولم يكونوا قادرين على حل القضية العراقية من قبل وغيرها من القضايا العربية الأخرى سواء قبل بدء ثورات الربيع العربي أو بعدها، بل كانوا قادرين وحدهم ودون تدخل غربي أمريكي على حلها، وأنهم يملكون كافة الأدوات الممكنة، لكن الانقسامات والعداوات الوهمية بينهم حالت دون ذلك، ودفعتهم إلى درجة تمويل وتسليح وتصنيع الارهابيين والقتلة المنتشرين الآن في كل مكان من الأرض العربية. وأخيرا من يظن أنه بعيد أو مستبعد من خطط التقسيم والتفكيك وزعزعة الاستقرار والأمن بالجماعات الارهابية، ومن يحسن النوايا بالإدارات الغربيةوالأمريكية والاسرائيلية فلا أظنه إلا واهما يعيش في واد آخر، وإنني لأنصح أنظمتنا من المحيط للخليج أن تعيد قراءة ما يجري على الخارطة كاملة فورا، وأن تجلس على مائدة وحدة تحمى ما تبقى من الأمة قبل فوات الأوان.