أثارت تصريحات اثنين من أئمة الأوقاف، أحدهما الدكتور سالم عبدالجليل وهو إمام سابق وتقريبا أصغر وكيل وزارة أوقاف سابق (؟؟؟) والآخر عبد الله رشدي، إمام حالي بالأوقاف— زوبعة من ردود الأفعال بعد تبنيهم خطاب كلاميا عقديا في توصيف الآخر بالكافر، وهو خطاب مفاصلة وتمييز، وتفرقة ومحاجة، لا خطاب دعوة وجمهور وإعلام.. وإذا كان يصح في مباحث علم الكلام وأصول الدين وصف الآخرين المخالفين عقديا بالكفر أو النفاق أو الزندقة وفق ضوابط خاصة، وشروط أصولية محققة، تتخذ من النص المقدس مستندًا لها، فليست هذه بلغة الدعاة، ولا بلغة من يقدمون برامج إذاعية أو مرئية، فالقرآن الذي حاكم ألوانا من الشرك وأهله والكفر ومتبعيه والنفاق وأهله، وعرض صفاتهم ونخل نفوسهم، يعرض لنا لغة جماهيرية دعوية راقية في سياقات الحوار القرآنية العديدة؛ حيثتتردد في أنفاسها البديعة جذور مادتي "الخير" و"الحسن"، وناهيك بهاتين المادتين دلالة على المودة والبر والعطف، قال الله تعالى في بيان طرق الدعوة: - "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ" (القرآن، سورة آل عمران، 3: 104). - "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (القرآن، 17: 53). - "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ" - "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (القرآن، سورة النحل، 16: 125). - "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" - وقال تعالى في ميثاقه الذي أخذه على بني إسرائيل وعلينا، "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا "(القرآن، سورة البقرة، 2: 83). من الواضح هنا أن أن لغة الدعاة والإعلاميين هي لغة الناس، لغة الجمهور، لغة الدعوة.. وبتعبير القرآن لغة "الحسن". هذا الحسن الذي تتزين به العبارات والأرواح والأفكار، كما تتزين به الأجسام والجمادات والمادات. ويجب أن يكون واضحا أنني لا أقاضي صحة ما قاله الدعاة المذكورون ممن وصفوا غير المسلمين بالكفر، فليس هذا مقال هذا المقام،، بل ليس إلى تخطئته سبيل،ولكننا نتساءل: أي فائدة تعود على الدعوة من هذه اللغة، ألم تسمع إلى ربك في مقام المجادلة وهي آخر صور الدعوة يقول: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (القرآن، سورة العنكبوت، 46)، ألم يكن من اليسير القول: ولا تجادلوا الذين كفروا إلا بالتي هي أحسن.. ولكن كيف يجتمع الحسن مع الكفر في سياق الخير الأكبر، وهو الدعوة إلى الله. ينبغي علينا أن نفرق بين ثلاث مساحات للنقاش مع الآخر الديني، سواء أكان الآخرمن اليهود، أم المسيحيين أم البوذيين أم غيرهم: الأولى: المساحة الآمنة المفتوحة، وهي مساحة مكارم الأخلاق، العدالة، التعاون، الإنسانية، الحكم الرشيد، الرفاهية للجميع، المواطنة، وهذه محل اتفاق. الثانية: المساحة القلقة، وهي التي تناقش فيها الاختلافات الفرعية: لماذا يحرم الإسلام الربا؟ لماذا تحرم المسيحية الطلاق؟ لماذا يدافع المسيحيون في الغرب عن اليهود وهم قتلة المسيح حسب عقيدتهم؟ لماذا يقتل المسيحيون في وسط أفريقيا المسلمين؟ ما مدى سلطان الكهنة في المسيحية؟ لماذا يحج المسلمون إلى مكة أو يطوفون حول البيت؟ وغيرها من اللماذات والهلات الكثيرة الكثيرة. هذه مساحات جدل يمكن النقاش فيها، والأخذ فيها والرد، وربما تقنع الآخر في بعض الجزئيات أو يقنعك في بعضها. ثالثا: المساحة المغلقة أو الخطرة، وهي الخاصة بالاعتقادات الكبرى المؤسسة، كاعتقاد المسيحيين في عقيدة الصلب والفداء على خلاف اعتقاد المسلمين بالمسئولية الشخصية، واعتقاد المسيحيين عدم نجاة من لم يؤمن بألوهية المسيح، واعتقاد المسلمين بفساد عقيدة الثالوث.. هذه المساحة ليست محل نقاش عام، ولا حوار تلفزيوني، ولا حديث إذاعي، ولا جلسة نقاش جماهيرية، بل محلها البحوث والدراسات ومناظرات العلماء؛ وعلة ذلك أن هذه المساحة تتحدى الأصول المؤسسة لكل دين، ويؤمن بها ملايين الناس دون كبير تدبر أو تفكير، فمن الحماقة أن تتحدى ملايين المؤمنين بهذه العقائد رغبة في إيمان أو اقتناع البعض منهم. ولعلك تكون أكثر فطنة لو قلت إن عقائدنا التي نؤمن بها تخالف عقائد غيرنا التي يؤمنون بها، ولنكن جميعا مؤمنين، لا كافرين، على مستوى التعبير اللغوي، ولنترك الأمر لرب الخلق والأمر، وهو القائل: "إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (القرآن، الزمر، 7).