ذاك كان جدي ، يحكي لكل أبناء أبناءه عن قصته اليتيمة بروتينية قاتلة _ في الحقيقة كان يقصها علي أنا وحدي باعتباري حفيد ابنه الوحيد _ ، كان يجبرني على انتظار عودته من الغرفة حتى يحضر ساعته الذهبية القديمة من نوع الكاتينة ، ثم يأمرني بالجلوس على الأرض بينما هو ينظر الى الأمام ثم الى ساعته تباعا ً. أمل من هذا اليوم في أخر الأسبوع الذي كان يصطحبني أبي فيه الى هناك . الى بيت الجد الوحيد .لم أتعجب من استمراره في قص حكايته التقليدية علي . غالبا ما يكرر الزمن حكايته حتى نعيشها يوما ما . أو لباقي حياتنا . كان يحكي دائما أنه عمل كموظف كبير في أحد بنوك القاهرة . وفي هذا الوقت كانت حياة أخرى غير التي نعيشها . لكنها كانت حياة . أصطحب زوجته التي لم أرها منذ ولدت كعادتهم في يوم الخميس لمشاهدة مسرحية جديدة مأخوذة عن نص عالمي لكاتب أوروبي لم أتذكر أسمه . نزلا من سيارتهما الصغيرة الزرقاء مرتديان ملابس الفخامة . كان في هذا الزمان ملامح وجاهة الشكل أهم من أي شئ أخر . هو يرتدي بذلته السوداء . وهي ترتدي فستانها الممضي من محلات ياور الفرنسية . يدخلان الى صالون المسرح الي بني على ناصية أحد شوارع وسط البلد . يوزعان السلام هنان وهناك بطأطأة قليلة من رأسهما وبأتسامة تمثيلة مبالغ بها مثل باقي الحضور . يقفان مع من يعرفاهما من ارستقراطيي المجتمع .هذا من العائلة المالكة وأخر باشا يمتلك ألاف الأفدنة . وهذه بنت فلان باشا . الحديث عن المال والأعمال وبعض كلمات ملئ الفراغ المحيط بهم . حتى موعد المسرحية . جدي كان يقول أنه لا يعتبر نفسه يوما من الطبقة الأرستقراطية تلك . كان يقول مازحا " أنا من الشعب الكادح ".لم يكتف بهذا بل كان يُهمش مقولة أن زوجته تلك كانت تصدق دورها هذا .وإنهم جميعا صدقو هذا الدور . يعيشون في وحدة و يلعبون دور البطولة لأنفسهم.ثم يصفقون معجبين بدورهم لهذا اليوم .نادى أحدهم على الجميع ببدء العرض و ضرورة الدخول الى القاعة المسرحية . لم يُحبذ راوي القصة الروتينية مشهد دخول المتفرجين . مجموعة من العبيد المنساقين الى شئ لا يعرفونه ثم تطفاء الأنوار عليهم حتى يزعنوا على مشاهدة هذه الخشبة الصغيرة في مقدمة القاعة . ويصفقون لأنفسهم في الأخير . أختار أن يخرج في لحظة اغلاق إضاءة القاعة الساطعة التي انعكست على الكريستالات المعلقة لتعطي مزيدا من الأبهة على الجمهور .عاد الى صالون المسرح حتى تنتهي العروض التمهيدية من السيرك الروسي و موسيقى القصور الأوروبية . الكل على حسبه ،ألَف القصة و عاشها ثم صدقها . لكنه خرج حتى يشعر ببعض الحرية . انتقل الى الساعة الكبير في مقدمة الصالون والتي يتحرك بنادولها الى اعلى وأسفل في إطار خشبي من الزان الغالي الثمن . ويغطيها زجاج مرسوم عليه بعض الورورد . دائما ما يقف عند هذا الجزء أثناء حكايته ليصمت قليلاً ،وينظر لساعته التي جلبها من حجرته وجعلني منتظراً قدومها . ليُكمل قائلاً أنه نظر الى ساعته ثم أنتقل بعينه الى الساعة الكبيرة . لأول مرة يلحظ فيها البنادول الدائري الذي يتحرك في الداخل بحركات ميكانيكية منتظمة . توقف بنظره وعقله عند تلك النقطة التي يشعر فيها بتوقف البنادول عند المنتصف . أشباه الحركة الميكانيكية يسيرون في الحياة دون توقف . على الأقل أقنعه هذا الجزء من الساعة بوجود وقفة أستثنائية تلفت الأنتباه و تواجه رتابة العالم وحركة الحياة الميكانيكية . لتلعب له دور البطولة في هذا اليوم . 2 يصدر صوت موسيقى من داخل القاعة المظلمة لكن انغلاق الباب يمحو تفاصيل هذه الموسيقى . أقترب موعد العرض المسرحي المنتظر . لكنه أكتفى بالوقوف خارج باب القاعة ينظر من بعيد على بداية دخول الأبطال الذين ستوجه لهم الأنظار فقط . ثم ينالون التحية على ما قدموه للمتفرجين القابعين في ظلمة القاعة . ويحتفلون بنجاح اول عرض لهم و يسهرون الى اليوم الثاني منتشين بنصرهم، بينما ستظلم خشبتهم التي وقفوا عليها وكانت تسلط عليها أضوائهم . سيتركونها وحيدة . بعد ان قرر الرحيل عن المكان وترك سيدته تعود الى المنزل وحيدة . إتجه الى سلم بالأسفل على جانب باب القاعة . دخل وهو يقرأ كلمة غرف الممثلين ولكل ممثل غرفة كتب عليها أسمه . بشارة وكيم ، علي الكسار ، زينات صدقي ... فرقة الرقص الروسية ينزلون الى غرفهم مبتهجين كما تخيل.استمع الى تصفيق الجمهور مع دخول أول عضو من الفرقة المسرحية الى الخشبة . هنا الكل يكتفي بدوره ولا يهمه من يسير ومن يقف و من يغادر . وذلك للحصول على أكبر قدر من تحية الجمهور . نظر الى أجزاء الكالوس الذي مشي به في الأعلى نموذج لجبل و أخر لشمس من الفلين التي تستخدم كديكور . يصفق الجمهور لمجموعة من الحياة الفلينية المصنوعة باليد . حتى حوار أبطال المسرحية مكتوب بخط اليد . لا توجد حقيقة لا تتغير في هذا المكان الا هذه الأرضية الخشبية التي أستوعبت ديكورات و أدوار مختلفة . شمس وجبل و قبر . خائن و عاشق و قاتل . تذكر اللحظة التي شعر فيها بتوقف البنادول عند المنتصف . لماذا لا يخرج أحد اأبطال المسرحية عن النص ليقول ما يشعر به فقط ؟!. في البداية عندما كان يصل جدي الى هذا الجزء كنت أشعر بأني سأبداء بفهم باقي قصته . فعقلي الصغير لم يستوعب كل ما مر من حديث حتى هذاك اليوم . يسترسل الجد قائلا أنه شعر برتابة ما يحدث . العمل والمسرحية وضحكات الجمهور المفتعلة و حركة الشارع و السيارات وزحام خروج الجمهور . وأضواء تصوير الكاميرات الصحفية وغيرها . ولا يبق من كل هذا الا حزمة من الخشب الداكن تستقبل ما يقف عليها في حنو أم مسنة على أولادها العقوق . كانت أول مرة أشاهد فيها مسرحية من الكواليس . أتابع عن كثب حركة دخول وخروج الأبطال الذين يتحولون ما أن يدخلو الى الداخل ويبتعدوا عن أضواء المسرح الكاشفة . تابعت أيضا قهقهات بعض حضور المقاعد الأولى الذين بالكاد أرى أفواههم المفشوخة لأعلى بفعل تماثل الأدوار مع ما يرغبون . لأول مرة أرى الرجل الذي يمسك بالعصى الخشبية التي تدق ثلاث مرات على الأرض الخشبية لتكمل هيبة هذا المكان وقدسيته . لم اتخيل أنه رجل عجوز قصير القامة يتكئ على هذه العصى التي تماثله في الطول . ليكمل بعدها نومه عليها بينما تتحرك كل أجزاء المكان الصناعية والبشرية من حوله . حسبته شاب يقف كاشفاً عضلات جسمه المفتولة وتمرن طيلة حياته على هذه الدقات . لم أتوقع يوماً ما ،أنني سأعيش هذه القصة كما حكاها جدي الا في بعض الأختلافات التفصيلة . كان يوماً مثل حكاية جدي المملة . وقفت أيضا وراء الكواليس . ونظرت الى أنعكاس ضوء المسرح الطفيف على الجالسين في المقاعد الأولى ورتابة الحركة من حولي .حتى رجل العصا الخشبية وجدته كما حكى لي جدي في الصغر .لم أصدق أني فعلت نفس فعلته . ظننت أني سأكشف بها أخيراً عن دوري . عندما دخلت مسرعاً الى خشبة المسرح أشاركها الحقيقة . مثلما قص علي تماماً.دخلت مسرعا ًو الضوء من الأعلى مُسلط علي ، ووقفت كما البنادول في المنتصف . الأنظار كلها موجهة الي ،حتى نظرات أبطال المسرحية . لحظت بعيني أن رجل العصى الخشبية قام من غفوته . ثم ضحكت قليلاً و صفقت لنفسي في الأخير . قبل أن يصيح الجمهور في ، وتتوقف المسرحية الى الأبد . أتذكر أنني ظهرت على غلاف احدى الصحف الفنية أيضا وأنا أصفق ضاحكا كالمجنون . ففي الحقيقة كنت أصفق لخشبة المسرح القديمة.