تجديد الثقة في الدكتور محمد أبو السعد وكيلًا لصحة كفر الشيخ    الغربية تستجيب لمطالب أولياء الأمور وتُخفض الحد الأدنى للقبول بالثانوي العام    محافظ الجيزة يوجه بإنهاء أعمال تغيير الكابلات المتضررة بساقية مكي وإعادة التيار الكهربائي في أسرع وقت    وزير السياحة: 22% زيادة في إيرادات السياحة خلال النصف الأول من 2025    رئيس الوزراء يوجه بإجراء مراجعة شاملة لأعمال الصيانة بجميع الطرق    «المنصور للسيارات» تطرح فئة جديدة من «إم جي7 موديل 2026».. وتخفيضات تصل ل 75 ألف جنيه    نتانياهو: "لا أعذار بعد اليوم" في غزة    إنزال جوي لمساعدات من الأردن و الإمارات في غزة    رابطة الأندية تعلن تعديل عقوبة الانسحاب في لائحة الدوري المصري    أحمد دياب يعلن انطلاق الدوري يوم 8 أغسطس وقرعة جديدة للدور الثاني    الأهلي يستأنف تدريباته غدًا استعدادًا للدوري    رسميًا.. موعد مواجهتي مصر ضد إثيوبيا وبوركينا فاسو في تصفيات كأس العالم 2026    سائق ينهي حياته شنقًا داخل منزله في الفيوم    رانيا فريد شوقي في ذكرى رحيل والدها: "27 سنة من غير حضنك.. ولسه بدوّر عليك في كل حاجة"    تجديد الثقة في الدكتور عمرو دويدار وكيلاً لوزارة الصحة بسوهاج    تجديد الثقة بوكيل صحة الإسماعيلية: استقبلت الخبر أثناء زيارتي لزميل بالمجمع الطبي    المغرب.. إخماد حريق بواحة نخيل في إقليم زاكورة    حماس: خطة الاحتلال بشأن الإنزال الجوي إدارة للتجويع لا لإنهائه وتمثل جريمة حرب    بورسعيد تودع "السمعة" أشهر مشجعي النادي المصري في جنازة مهيبة.. فيديو    نتنياهو: نقاتل في قطاع غزة ولدينا قتلى ومصابون    درجات الحرارة تزيد على 45.. توقعات حالة الطقس غدا الاثنين 28 يوليو 2025 في مصر    "تعليم أسوان" يعلن قائمة أوائل الدبلومات الفنية.. صور    الداخلية تضبط 254 قضية مخدرات فى القاهرة والجيزة    إصابة 9 أشخاص إثر انقلاب سيارة على الطريق الصحراوي الشرقي ببني سويف    تاجيل محاكمه ام يحيى المصري و8 آخرين ب "الخليه العنقوديه بداعش" لسماع أقوال الشهود    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم قرية جنوب نابلس.. وتطلق قنابل صوت تجاه الفلسطينيين    القصة الكاملة لعلاقة وفاء عامر بإبراهيم شيكا.. بدأت بدعم إنساني وانتهت باتهامات صادمة بتجارة الأعضاء    نجوى كرم تتألق في حفلها بإسطنبول.. وتستعد لمهرجان قرطاج الدولي    «فتح»: غزة بلا ملاذ آمن.. الاحتلال يقصف كل مكان والضحية الشعب الفلسطيني    غدًا.. وزير الثقافة ومحافظ الإسكندرية يفتتحان الدورة العاشرة لمعرض الإسكندرية للكتاب    الثلاثاء.. سهرة غنائية لريهام عبدالحكيم وشباب الموسيقى العربية باستاد الإسكندرية الدولي    ارتفاع المؤشر الرئيسى للبورصة بنسبة 1.3% ليغلق أعلى مستوى عند 34500 نقطة    رئيس اقتصادية قناة السويس يستقبل وفدا صينيا لبحث التعاون المشترك    7 عادات صباحية تُسرّع فقدان الوزن    داليا مصطفى تدعم وفاء عامر: "يا جبل ما يهزك ريح"    الدكتور أسامة قابيل: دعاء النبي في الحر تربية إيمانية تذكّرنا بالآخرة    أمين الفتوى: النذر لا يسقط ويجب الوفاء به متى تيسر الحال أو تُخرَج كفارته    "دفاع النواب": حركة الداخلية ضخت دماء جديدة لمواكبة التحديات    بالصور- معاون محافظ أسوان يتابع تجهيزات مقار لجان انتخابات مجلس الشيوخ    قبل كوكا.. ماذا قدم لاعبو الأهلي في الدوري التركي؟    قرار وزاري بتعيين الدكتور حمودة الجزار وكيلا لوزارة الصحة بالدقهلية    مجلس جامعة بني سويف ينظم ممراً شرفياً لاستقبال الدكتور منصور حسن    وزير البترول يبحث خطط IPIC لصناعة المواسير لزيادة استثماراتها في مصر    «مصر تستحق» «الوطنية للانتخابات» تحث الناخبين على التصويت فى انتخابات الشيوخ    تنسيق الجامعات 2025 .. تعرف علي قائمة ب71 معهدا للشعبة التجارية بدائل للكليات    وزير التموين يفتتح سوق "اليوم الواحد" بمنطقة الجمالية    تفاصيل تشاجر 12 شخصا بسبب شقة فى السلام    وزارة الصحة توجة نصائح هامة للمواطنين بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة    جواو فيليكس يقترب من الانتقال إلى النصر السعودي    ريم أحمد: شخصية «هدى» ما زالت تلاحقني.. وصورة الطفلة تعطل انطلاقتي الفنية| خاص    إصابة 11 شخصا في حادثة طعن بولاية ميشيجان الأمريكية    بدعم من شيطان العرب .."حميدتي" يشكل حكومة موازية ومجلسا رئاسيا غربي السودان    وزير الأوقاف: الحشيش حرام كحرمة الخمر.. والإدعاء بحِلِّه تضليل وفتح لأبواب الانحراف    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    تأكيدا لما نشرته الشروق - النيابة العامة: سم مبيد حشري في أجساد أطفال دير مواس ووالدهم    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسرح عال في بلد السد العالي
نشر في القاهرة يوم 07 - 02 - 2012

لست أحدثك عن الماضي لحماية نفسي فقط من عبث الحاضر بل لأجعلك أكثر إيمانا وحماسة لما يمكن أن تحققه في المستقبل. خمسة وأربعون عاما مرت علي تجربتي المسرحية في أسوان، ومرور كل هذا الزمن يعطيني الفرصة لإدراك مدي ماكان فيها من جمال وقوة. النجاح هناك أخفي كل أخطائي، غير أنني أراها بوضوح الآن، وأولها أنني اندفعت إلي خوض التجربة بغير التعرف ولو بالتقريب علي أبعادها ومن ذلك أن خشبة المسرح والقاعة سبق أن التهمهما حريق في منتصف الستينات، أي أن المسرح ليس جاهزا لتقديم عرض مسرحي، لقد خدعتني الأخبار المنشورة في الجرائد والتي تكلمت عقب الحريق عن أن الشركات العاملة في أسوان تعهدت بإصلاحه علي الفور، لقد تصورت أنها قد انتهت من إعادة المسرح إلي ما كان عليه وذلك بإمكانياتها الواسعة، الواقع أن هذه الشركات بالإضافة لهيئة السد العالي تعهدت بإصلاح القصر غير أنها لم تجد أحدا يطاردها أو يتابعها فظل المسرح علي حاله عاجزا عن العمل. حسنا.. لا بأس سنجد طريقة لتقديم العرض، بالتأكيد يوجد مسرح متنقل.. أين هو؟ فسحبني عم حسين من يدي إلي ركن بعيد وأشار إلي كومة أخشاب لا تصلح لشيء وقال: هذا هو ما تبقي منه. الشاطر حسن تأتي لحظات في الحواديت القديمة يقف فيها الشاطر حسن في مفترق طرق، هي سكك ثلاث، سكة السلامة وسكة الندامة وسكة اللي يروح ما يرجعش، سكة السلامة لا تناسبني، لأنها تخلو من المغامرة والأخطار لذلك هي غير ممتعة، هي تناسب فقط الموظفين والمسئولين السياسيين، أما سكة الندامة فأنا أرفضها بكل الوعي، أنا أكره الندم والندامة، وأحب الندامي أو الندمي كما تقول أم كلثوم في ليلة العيد. ولأنني أكره سكة الندامة لذلك أحرص كل الحرص علي عدم فعل ما يمكن أن أندم عليه. فالسكة التي تناسبني حقا هي سكة اللي يروح ما يرجعش، إنها السكة الوحيدة التي تكتشف فيها نفسك وتتعرف فيها علي قدراتك، لقد جئت إلي أسوان لتقديم عرضين مسرحيين، ولا يوجد مسرح يصلح لذلك، هل أعود إلي القاهرة مسلحا بقفة أسباب وتبريرات للفشل؟ لحسن حظي كان كل موظفي القصر بشراً متعاونين ويريدون فعلا أن تعود الأضواء إلي القصر والمسرح، قلت لهم: أنا أعرف أن الشركات هنا تعهدت بإعادة المسرح إلي ماكان عليه، أين هو هذا التعهد؟ علي الفور أحضروا ملفا منتفخا: هذا هو محضر الاجتماع. كان القصر مجهزا بعربة نقل يقودها شاب ظريف، وعلي الفور قررت الانتقال إلي مقار الشركات والهيئات التي تعهدت بإصلاح المسرح، واستخدمت هذه السيارة في تنقلاتي لمقابلة المسئولين، أشهد أن جميع المسئولين في هذه الشركات استجابوا لطلبي علي الفور عندما عرضت عليهم محضر التعهدات، تطلب الأمر أن أقابل ابراهيم زكي قناوي نائب رئيس هيئة السد العالي، كان متوترا بفعل ضغط العمل فقال لي: نحن مشنوقون هنا في السد العالي وتأتي أنت لتكلمني عن المسرح؟ فقلت له بأدب: لا تستطيع أن تهتم بالسد العالي بغير أن تهتم بالمسرح، لأن المسرح هو من سيصنع الناس التي تحافظ علي السد العالي. المشهد التالي أشهد أمام الله والتاريخ أنه حدث , بعد الظهر، فوجئت بالرجل وقد جاء بنفسه إلي القصر ومعه جيش من العمال والمهندسين، كان يناقشهم بنفسه في خطوات العمل ونوعية الخامات المطلوبة، في اليوم التالي لزياراتي للمسئولين في المقاولين العرب، وشركة مصر لأعمال الكهرباء والأسمنت المسلح ( معذرة إذا لم يكن الاسم صحيحا) وهيئة السد العالي، جاء الجميع لإعادة المسرح إلي بهائه. الشواية وعم علي الله التدريبات تحدث في مواعيدها بالضبط بغير متاعب تذكر وجماعات من البشر تعمل بكل طاقتها لإعادة الحياة إلي المسرح بعد أن التهمته النيران وتعطل لأعوام الآن فقط أنا مطمئن إلي أن العمل سينتهي في المسرح بعد أسابيع وعلي أن أكون جاهزا بالعرض الذي قررت أن يكون عرضا محترفا كنت أري أن الطريقة الوحيدة التي نجذب بها الناس إلي العرض المسرحي هي أن يدفعوا ثمن التذكرة من المستحيل أن يستمتع مخلوق بعرض مسرحي يشاهده مجانا, عدد من المهندسين جاءوا لتركيب شبكة كهرباء جديدة لخشبة المسرح والقاعة وانصرفوا بعد أن تركوا لي كهربائيا اسمه عبدالفتاح يبدو أنهم يثقون به إلي درجة كبيرة عبدالفتاح شخص وسيم يحرص علي ارتداء ملابس أنيقة ويمارس عمله بغير أي ضجة أو مشاكل, كنت أقول له دائما: عبد الفتاح.. أنا في عرضك.. أريد أعلي درجات الأمان لشبكة التوصيلات.. لا أريد للمسرح أن يحترق مرة أخري. فكان يبتسم لي ويطمئنني ولاحظت أنه يدقق في مطالعة كتاب باللغة الألمانية ألقيت عليه نظرة كان يراجع رسوما هندسية تساعده علي تركيب الشبكة لابد أنه من العمال الذين تلقوا تدريبا في ألمانيا الشرقية انتهي عبدالفتاح من تركيب كل توصيلات الكهرباء ثم قام بعمل عدد من (السكاكين) الكهربية تستطيع أن تفصل بها الكهرباء من عدة أماكن في المسرح بل قام بتركيب سكينة علي الحائط خلف مكتبي, لم يترك شيئا للظروف أو للصدفة وأنا أحب هذا النوع من الاتقان. غير أن عبدالفتاح لم يتركني بعد انتهاء مهمته قرر أن يبقي في المسرح إلي أن يتم تركيب كل تجهيزاته فربما تجعله هذه التجهيزات يعيد النظر في بعض التوصيلات. انتهي العمل تماما وعلي الثقافة الجماهيرية أن ترسل لي بالكواليس والستارة الخلفية (البانوراما) والستارة الأمامية وهذا هو ما حدث, جاء فريق عمل بقيادة أسطي قديم هو عم علي الله الذي ألقي نظرة سريعة علي خشبة المسرح من الداخل ثم رفع أنظاره إلي سماء المسرح وقال: هذه الشواية لن تتحمل ثقل أي ستائر تركب عليها.. الخشب المستخدم في (السوفييتة) أو كما نسميها الشواية من نوع خاص يتسم بالقوة والمرونة, هو خشب براطيم.. أما الخشب الراكب الآن فهو خشب أبيض ضعيف.. لن أغامر ولا يجب أن تغامر أنت بتركيب ستائر علي هذه الشواية. الشواية مكونة من ألواح خشبية مركبة في أعلي سقف المسرح وهي تشبه الشواية بالضبط. وجاء المهندسون رؤساء عبدالفتاح, واقترحوا عدة اقتراحات لتقوية الشواية, وانتهي الأمر بضرورة تركيب قضبان حديدية من النوع المستخدم في السكك الحديدية سيتم تقطيعها بمقاسات معينة ثم ترفع إلي السقف بروافع لتستند إلي جدران المبني ثم يعاد ربطها ببعضها البعض. وبذلك يكون بمثابة وسادة قوية لخشب الشواية وتستطيع تعليق أي أثقال فيها, وافق علي ذلك عم علي الله ولكن من أين سنأتي بهذه القضبان.. من السكة الحديد؟ فقالوا: لأ.. عندنا. همس عبدالفتاح في أذني هامسا: اطلب منهم خمسة قضبان, ومالهمش دعوة بالتركيب. وافقوا علي طلبي ولكن يا لها من مهمة تقطيع قضبان ثم رفعها ثم إعادة تثبيتها تحت خشب الشواية غير أن عبدالفتاح طمأنني إلي أن ذلك لن يستغرق وقتا طويلا وأن العرض سيقدم في موعده. في الصباح ذهب إلي الشركة وعاد بالقضبان عندما استيقظت كان قد ركبها بطريقة مبتكرة لا يتخيلها أحد ثم أيقظني وقال لي: الشواية جاهزة الآن.. تستطيع أن تركّب فيها قطر سكة حديد. يا إلهي.. كل هذا النجاح عبدالفتاح الكهربائي، الذي قام بمفرده بتركيب شبكة التوصيلات الكهربية في المسرح، والذي كان يستعين بكتاب باللغة الألمانية في التوصيلات، والذي قام أيضا بتركيب قضبان حديدية في أعلي المسرح لحماية الشواية فأمكن بذلك تركيب ستائر ثقيلة عليها، جاءني عبدالفتاح يستأذن لأنه سيغادر أسوان.. هو ذاهب إلي أوغندا ليشترك في تركيب محطة كهرباء. فشكرته علي كل مجهوداته وطلبت منه أن يكتب لي، فرد علي بابتسامة عجزت عن فهمها ثم قال: واضح إن حضرتك لا تعرف إني لا أقرأ ولا أكتب.. يا إلهي.. عبدالفتاح العبقري الذي يجيد قراءة الرسوم الهندسية الكهربية في كتاب باللغة الألمانية، والذي أشهد أنه قام بمفرده بتركيب كل توصيلات المسرح الجديدة بأكبر قدر من معاملات الأمان.. هذا العبقري الذاهب إلي أوغندا للاشتراك في تركيب محطة كهرباء جديدة.. لا يعرف القراءة والكتابة؟.. يا إلهي.. لماذا لم يفكر أحد من رؤسائه في إقامة فصل دراسي خاص به لمحو أميته؟ وسافر عبدالفتاح ومنذ ذلك الوقت البعيد منذ خمسة وأربعين عاما في أسوان، انقطعت أخباره عني. نعود إلي التدريبات، في كل فرقة هواة ستجد ممثلا يجيد أشياء أخري إلي جوار التمثيل، ستجده يفهم في الإخراج وربما مارسه من قبل وفي الديكور، ويجيد صنع الاكسسوار ولديه حلول جاهزة أو علي الأقل مبتكرة لأي مشكلة تطرأ أثناء العرض أو التدريبات، هذا هو أحمد الخليلي الذي قام بعمل كل ما نحن في حاجة إليه علي خشبة المسرح، لا أعرف إن كنت تذكر أم لا أنني لم أطلب من إدارة الثقافة الجماهيرية ان ترصد لي مبالغ لتغطية الانتاج، كنت واثقا أنني سأقوم بتغطية ذلك من المحافظة، أضف الي ذلك أن الديكور لم يكن له أهمية كبري في المسرحيتين «بير القمح» و«أغنية علي الممر»، فالأولي تدور احداثها في الصحراء أي فيما نسميه المسرح العاري، والثانية في موقع عسكري يمكن إقامته بشكائر رمل تعطيك ما تريده من تشكيل، ثم ماسورة مدفع بازوكا صنعها الخليلي بسهولة، وماذا عن تكلفة الملابس العسكرية؟ ولماذا نشتريها؟.. من المؤكد أنه يوجد معسكر قريب للقوات المسلحة، علي أن أشرح لهم موضوع المسرحية وأقترض منهم الملابس المطلوبة، فوافقوا علي الفور، بل كانوا كرماء معي عندما طلبت منهم ضابطا يحضر التدريبات علي مسرحية «أغنية علي الممر»، لمراقبة الحوار والحركة للتأكد من عدم وجود خطأ، لقد خدمت في القوات المسلحة، سلاح الإشارة قبل ذلك بعشرة أعوم، غير أنني لم أشترك في قتال فعلي. نأتي للشئون الإدارية، اتفقت مع إحدي المطابع علي أن تطبع لي التذاكر ودفاتر البردروه، أما تخوف الممثلين من أن أحدا لن يحضر الافتتاح، فقد تعاملت معه بجدية، الإعلانات التي ستنشرها الجرائد اليومية لمدة يومين ستكون مؤثرة للغاية في إقناعهم بأهمية العرض، أضف الي ذلك بطاقة الدعوة الفاخرة التي سأقوم أنا بنفسي بالذهاب الي مكاتبهم وتسليمها لهم، لا تنس انني كنت قد حققت بعض الشهرة من خلال العروض المسرحية التي قدمتها قبل ذلك في القاهرة والأقاليم، أنا تقريبا جاهز للافتتاح ينقصني فقط أن أدفع مائة وستين جنيها للمطبعة، طلبتها من المحافظ فدفعها علي الفور وفلوس الايرادات ماذا أفعل لكي أتمكن من وضعها في البنك ثم السحب منها؟ اتضح أن هناك حساباً اسمه حساب الاتحاد، ما تودعه فيه تستطيع السحب منه، وجاء الافتتاح.. يا إلهي.. كل هذا النجاح؟ بين أسوان والقاهرة الموسيقي الحية تضفي علي العرض المسرحي جمالا، كان هناك بيانو في نهاية قاعة المسرح، سألت عن عازف بيانو فجاءوني بمدرس موسيقي، طلبت منه أن يراقب جيدا التدريبات علي مسرحية بير القمح،وأن يقدم علي البيانو عزفا مصاحبا لها من تأليفه، أما أغنية علي الممر فكانت موسيقاها مسجلة، هي ذاتها موسيقي الأغنية التي تدور حولها أحداث المسرحية من تلحين إبراهيم رجب وتأليف محمد العجمي. في معظم الأحيان هناك مفاجأة محبطة قبل رفع ستار الافتتاح، قبل العرض بساعة اعتذر أحد الممثلين، علي الفور ارتديت ملابس الدور، تكررت هذه المفاجأة غير السارة أثناء العرض وبعد أن تأكد الممثلون أنه لا شيء يوقف العرض المسرحي انتظموا في الحضور، في تلك الليلة الجميلة، وبعد نهاية العرض جاءني في الكواليس عدد كبير من مديري الشركات والهيئات المسئولة في أسوان لتهنئتي بالعرض فكان سؤالي لهم جميعا: هل تحب لموظفيك وعمالك أن يشاهدوا هذا العرض؟ فكانت الإجابة: طبعًا طبعًا.. في الصباح، مررت عليهم في مكاتبهم وبعت لكل منهم عددا من الحفلات، حددت مبلغ خمسين جنيها ثمنا للحفلة، غير أن المهندس محمد محمود رئيس المقاولين العرب قال: لأ.. سنشتري ليلة العرض بمائة جنيه. متوسط عدد العروض التابعة للثقافة الجماهيرية كان عادة لا يتجاوز ثلاثة أيام، اتصل بي حمدي غيث في اليوم التالي للافتتاح وسألني: حا تعرض كام يوم؟ فأجبته: شهراً علي الأقل.. فصاح: يا مجنون.. حا تقدر تعرض شهر؟ فأجبته: علي الأقل.. لأن العرض محجوز لمدة شهر. أودعت الإيرادات البنك في حساب الاتحاد ، وكان من حقي بتوقيعي وأحد موظفي القصر أن أصرف منه ما أشاء، لذلك صرفت للممثلين مكافآت عن أيام التدريب وأيام العرض، أجمل ما يحدث للممثل الهاوي هو أن يتناول أجرا أي أجر عن العروض التي يشترك في تقديمها. كان الوقت شتاء، وما أجمل أسوان في الشتاء، كل يوم كان يأتيني وفد من الصحفيين والنقاد والإذاعيين، لمشاهدة العرض وتغطيته
إعلاميا ونقديا، تحول الممثلون إلي نجوم يجرون الأحاديث مع الصحافة وأجهزة الإعلام، لذلك كان من السهل علي بعضهم أن يعملوا محترفين في القاهرة، اثنان علي الأقل، أحمد الخليلي الذي عمل مع الأستاذين فؤاد المهندس ومحمد عوض، وعثمان عبد المنعم الذي قدم أدوارا كثيرة في السينما والتليفزيون، ثم عمل لسنوات في فرقة المتحدين مع الأستاذ عادل إمام. جاء لزيارة الفرقة ومشاهدة العرض الدكتور فوزي فهمي وكان يعمل في ذلك الوقت معيدا بمعهد الفنون المسرحية، جاء ومعه عدد من طلبة المعهد وقال لي شيئا أزعجني بشدة، كانت بير القمح وأغنية علي الممر تقدمان في عرض واحد في نفس الوقت علي مسرح الزمالك بواسطة نجوم الفرقة المحترفين، قال لي الدكتور فوزي: لقد شاهد الطلبة العرض الذي تقدمه القاهرة، ويقولون إن العرض هنا أفضل بكثير، يقولون إن عرض أغنية علي الممر في القاهرة جيد، غير أن عرض أسوان أفضل منه، أما عرض بير القمح كما قدم في القاهرة فهو سيئ للغاية. بعد هذه الأخبار المزعجة نزلت من فوري إلي القاهرة، بالفعل كان عرض بير القمح التي أسموها "البريمة" رديئا لدرجة مؤلمة. الكارثة تحدث علي خشبة المسرح عندما يتصور الممثل أنه يقدم كوميديا تحتم عليه أن يعمل كمؤلف، وبذلك يفسد العرض ويخسر الضحك. أنا أعتقد أن هذه المرحلة هي المسئولة عن فساد العلاقة بيني وبين المخرجين بوجه عام، معظمهم يوجد بداخله مؤلف فاشل عاجز عن التحقق. العودة إلي القاهرة كلمني أحمد الخليلي الممثل بالفرقة عن زميل له في شركة المقاولين العرب، قال عنه إنه إنسان ظريف ويهوي الكتابة وأنه أنشأ صحيفة داخل الشركة يحررها كلها بنفسه واسمها "المستجاب" طلبت منه أن أتعرف عليه وحددت له موعدا كما طلبت منه أن يأتي ومعه بعض من إنتاجه، وجاء بالفعل، تكلم معي بخشونة وربما بقلة ذوق، كان أقرب إلي الشراسة، وأنا أعرف جيدا هذا النوع من الشراسة الذي يداري بها الإنسان خوفه من الآخرين، في أعمق أعماقه هو يدرك أن كتاباته لا تقل أهمية عن كتابات الكتاب المحترفين غير أنه كان يخشي أن أتعامل معه بتعال أو لا أعطي كتاباته حقها من التقدير والانتباه، تجاهلت سلوكه وطلبت منه أن يجلس وأن يبدأ في قراءة قطعة من أعماله، فقرأ مشهدا مسرحيا طويلا، المشهد ينتمي إلي عالم الرواية السردي وليس إلي عالم المسرح، غير أنني أدركت علي الفور أنني أمام كاتب روائي متميز، قلت له: اسمع.. انت كاتب روائي حقيقي.. أعد كتابة هذا المشهد مرة أخري علي هيئة قصة، ستكتشف أن قالب القصة هو الأقرب لموهبتك. لم يترك محمد مستجاب الفرقة منذ ذلك الوقت، كان معنا في كل العروض، حدثت الدكتور علي الراعي عنه وكان أيامها مسئولا عن مجلة الهلال، قرأ له قصة أعجبته فنشرها علي الفور، هكذا دخل محمد مستجاب عالم المحترفين بعد أن ترك المقاولين العرب وعمل موظفا في مجمع اللغة العربية، رحمه الله كان واحدا من أرق الكتاب الشرسين وأكثرهم موهبة وظرفا، ذات يوم كان يرتدي جلبابا ثمينا، كان عادة يحب ارتداء الجلباب، فقال له محمود صلاح رئيس تحرير مجلة الحوادث: مفيش أجمل من كده في الدنيا. فأجابه ضاحكا: أصلك ما شفتنيش في الآخرة. العرض مازال مستمرا، كنت أقوم بنفسي بعملية التسويق، بعد أن انتهيت من الشركات بدأت في زيارة المدارس والحديث مع الطلبة عن العرض، لا حظ أن أقل سعر تذكرة كان خمسة قروش وأعلاها كان خمسة عشر قرشا. غير أن ظاهرة جديدة بدأت تشعرني بالانزعاج، كل مدرسة عندها عرض مسرحي كانت تتقدم إلي المحافظة بطلب للموافقة لها علي استخدام المسرح في التدريبات بعد أن تم إصلاحه، وبدأت أكتشف القسوة واللامبالاة التي يتعاملون بها مع خشبة المسرح، الأكثر من ذلك أنني اكتشفت السبب في حريق المسرح قبل ذلك بأعوام، الإهمال وانعدام الحذر واليقظة، المدارس تقوم بالتدريبات لساعات طويلة وكل البروجكترات مضاءة، استدعيت عم حسين مسئول آلة العرض السينمائي وخشبة المسرح وأشرت له علي صف البروجكترات الأمامي الملاصق تقريبا للستارة الأساسية وقلت له: إضاءة هذه البروجكترات لساعات طويلة ترفع درجة حرارة الستارة إلي درجة الاشتعال.. أعتقد أن ذلك هو بالضبط ما حدث من قبل.. الشمسات تكفي لإضاءة المسرح وقت التدريبات، العروض فقط هي التي تتطلب إضاءة البروجكترات. والشمسات عبارة عن لمبات عادية في علب زجاجية عريضة كافية بالفعل لإضاءة المكان أثناء التدريبات. وانتهي عرض «بير القمح» وبدأت في تدريبات العرض الثاني "الراجل اللي ضحك علي الملايكة" الذي ظهر في شهر مايو وما أدراك ما هو شهر مايو في أسوان، لقد حاولت قدر استطاعتي أن أفتح كل أبواب القاعة لكي تمر علي الأقل نسمة علي المتفرجين من النيل القريب، ومع ذلك جاءت علي أوقات خشيت فيها علي المتفرجين أن يسيحوا من ارتفاع درجة الحرارة. بالطبع انقطعت زيارات رجال الصحافة، انتهي العرض وانتهت فترة تعاقدي مع الثقافة الجماهيرية، فعدت إلي القاهرة. والعرض مازال مستمرا عدت إلي القاهرة بعد تنفيذ عقدي مع الثقافة الجماهيرية الذي استغرق ستة شهور قدمت فيها عرضين مسرحيين، كانت هناك مفاجأة في انتظاري، تم التخلص مني ومن كل زملائي الذين عملوا مشرفين فنيين في كل القصور، كما تم التخلص من هؤلاء الذين أرسلوهم إلي مواقعهم، أقصد الأساتذة سعد كامل وألفريد فرج وحمدي غيث، وفي اجتماع حاشد في مسرح الزمالك قال المسئول الجديد الدكتور عبدالحميد يونس: لقد أنقذت الثقافة الجماهيرية في اللحظة الأخيرة من الشيوعيين.. كانوا علي وشك الاستيلاء عليها. مناخ آخر بدأ يسود، الرغبة في رفض الهزيمة بالمزيد من النشاط الإبداعي والعمل بين الناس بدأت تختفي ليحل محلها ذلك النوع من الخوف الذي يدفعك للبحث عن عدو وهمي توجه إليه ضرباتك، كانت أياما خانقة فكل ما تكتبه من السهل إساءة تفسيره، ساد الاعتقاد عند الرسميين بأن كل عمل مسرحي بداخله قنبلة وعلي الرقيب البحث عنها وإبطال مفعولها، في تلك الفترة كتبت مسرحية «عفاريت مصر الجديدة»، ولم أقدمها إلي أي مسرح، كتبتها لكي أتقدم بها إلي مسابقة أقامتها اليونسكو، اثنان فقط مرشحان للفوز بها، محمود دياب وكاتب هذه السطور، استبعدت لجنة القراءة المسرحية، قابلت بالصدفة الأستاذ نبيل الألفي الذي كان عضوا في لجنة القراءة الخاصة بالمسابقة، قلت له: أنا أفهم أن ترفضها الرقابة..ولكنني أعتقد أن المقاييس الفنية وحدها ستكون المعيار الوحيد في مسابقة كهذه. فأجابني: المسرحية الفائزة سوف تنشر باللغة الانجليزية.. ماذا سيحدث عندما تنشرها إسرائيل بعد أن تكتب لها مقدمة تشرح ما فيها.. ألا يسيء ذلك لسمعة مصر؟ لذلك استبعدنا مسرحيتك. هكذا بدأت إسرائيل تقود قافلة الخوف في قلوب المثقفين وعقولهم، وبدأ النقاد يفقدون مقاييسهم الفنية في الحكم علي الأعمال بعد أن حلت محلها المعايير السياسية، هكذا بدأوا يشيدون بالأعمال الزاعقة ذات الزوايا الحادة التي تخلو من أي إبداع. غير أن صدفة تاريخية أنقذت مسرحية «عفاريت مصر الجديدة» من الموت باسفكسيا الخنق في درج مكتبي، حدثت ثورة التصحيح التي قام فيها الرئيس السادات بوضع الحكومة كلها في السجن. فطلب المسرح القومي وكان يديره سعد أردش أن أقدم لهم المسرحية ليخرجها جلال الشرقاوي الذي أخرج لي من قبل «ولا العفاريت الزرق» في المسرح الكوميدي و«أنت اللي قتلت الوحش» في مسرح الحكيم، جاء عرض المسرحية في نفس الوقت الذي كانت فرقة الفنانين المتحدين تقدم عرض مسرحية «مدرسة المشاغبين» أيضا من إخراج جلال الشرقاوي في موسمها الشتوي بعد أن قدمتها في الاسكندرية صيفا، وبدأ موسم الهجوم علي كاتب هذه السطور، ولعل أظرف ما قيل في هذا الوقت هو: نعم.. هو كاتب مسرحي جيد، غير أنه ليس راسخا، والمسرح القومي يجب أن يكون للكتّاب الراسخين، الناقد هنا لا يناقش العرض ولا يناقش النص بل يقدم بحثا عن الرسوخ في المسرح، ولم يتوقف الهجوم حتي الآن إلي أن جاءت حكاية السلام فحولته إلي حرب مقدسة بعد أن ظهرت تهمة جديدة مرعبة هي التطبيع. وفي عام 1996 وفي اجتماع للجمعية العمومية لأعضاء نقابة المهن التمثيلية ظهر الأستاذ حمدي غيث ليطلب من الحاضرين فصلي من النقابة، كنت عضوا في الشعب الثلاثة، التمثيل والتأليف والإخراج، حدث ذلك بعد شهور من التحقيق معي الذي قام به مستشار من مجلس الدولة داخل النقابة وانتهي إلي أنه لا توجد أي مخالفة قانونية في زيارتي لإسرائيل.. والعرض مازال مستمرا.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.