كثيرا ما أتذكر بالتقدير والمحبة عبد الفتاح الجمل (1923- 1992) الكاتب والصحفي ودوره في الستينات . حينذاك كان الملحق الأدبي بالأهرام منبرا للكبار الراسخين أما الصفحة الثقافية التي أشرف عليها الجمل في جريدة المساء فكانت علي العكس منبرا لمن لم يسمع أحد عنهم من قبل . قدم الجمل أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ويحيي الطاهر عبد الله ومحمد البساطي وكثيرين ممن صاروا أعلاما . أتذكر الجمل كلما التقيت بشاب موهوب حقا لكنه لا يعرف طريقا للنشر . الآن أقدم هنا قصة " لاكي " لكاتب أنتظر منه الكثير هو أمير زكي . يمكنك أن تتأمل موهبة القصاص الكبيرة في الجملة الأخيرة من القصة " فقد يتلاشي الليل في أية لحظة " ! " كنت أسير بجانب المسرح القومي وفوجئت بلافتة تقول أن مسرحية في انتظار جودو تُعرض الآن ، لم أر المسرحية مشخّصة من قبل ، لذلك لم أضيّع الفرصة وقررت اللحاق بالعرض . وجدت منفذ التذاكر مغلقاً ، بل وكانت ساحة المسرح كلها خالية ، فلم يكن هناك رجال أمن أو عاملين ، ولم يوقفني أحد ليسألني عن تذكرتي حتي دخلت قاعة العرض . في القاعة كان عدد الجمهور لا بأس به ، وكلهم كانوا مأخوذين بأحداث المسرحية ، نظرت إلي الممثلين علي الخشبة ، وعرفت أن الفصل الأول قد تجاوز منتصفه ، حسب تسلسل الأحداث الذي قرأته في الكتب ، فقد كان لاكي ينهي مونولوجه المفكك وفلاديمير واستراجون يحاولان إسكاته ، وما لفت نظري هو الممثل الذي يقوم بدور لاكي فقد كان قوي البنية وطويل طولاً ملحوظاً ، بما لا يتناسب مع لاكي ، أمعنت النظر فيه فإذا به صمويل بيكيت نفسه . إلي جانب دهشتي كانت فرحتي غامرة ، ها أنا أشاهد مسرحية في انتظار جودو وبيكيت بنفسه يمثل فيها ، وسريعاً تحسست طريقي في الظلام وجلست علي أحد المقاعد . فيما بين الفصلين سألت الرجل الجالس علي المقعد المجاور : - أستاذ ، هل تعرف الممثلين ؟ فنظر إليّ نظرة باردة ولم يُجب ، فسألت بوضوح أكثر : - هذا الذي يمثّل دور لاكي . هل هو صمويل بيكيت حقاً ؟ . فظل الرجل علي نظرته وصمته . بالطبع شعرت بالإهانة ، فالرجل لا يحترمني إذ لا يرد علي سؤالي ، لكني لم أدع هذا الشعور يطغي عليّ و يعكر صفو هذه الليلة الرائعة . في الفصل الثاني بدأت الأحداث تمر كما قرأتها في الكتب ، وكنت مستمتعاً إلي أقصي حد ومأخوذاً بهذا الجو المسرحي الرائع ، ولكني أيضاً كنت أنتظر ظهور لاكي لأشاهد بيكيت مرة أخري ، ولكن عندما حانت لحظة دخوله علي خشبة المسرح لم يظهر ، وما حدث أن بوزو دخل المسرح وحده وبدأ يؤدي دوره ، بالطبع امتعضت جداً من هذا التسيب لدرجة أنني صرخت : - أين لاكي ؟ لقد أفسدتم المسرحية؟! تململ الجمهور من صراخي وطالبني بالصمت ، كنت أشعر بالمسئولية لذلك حاولت إقناعهم بأن لاكي يدخل مع بوزو في الفصل الثاني كما حدث في الفصل الأول ، وأثار استيائي أن الممثلين كانوا يؤدون عملهم كأن شيئاً لا يحدث ، صرخت فيهم مرة أخري : - هذا تحريف للنص الأصلي ، كيف يقبل بيكيت بهذا ؟ . وهنا أوشك الممثلون علي التوقف ، وأوشك الجمهور علي الإقتناع ، ولكن رجال الأمن تدخلوا لإسكاتي وطردي ، أنا لا أعرف من أين جاءوا فلم أر أياً منهم عند دخولي ، والمؤسف أنني لم أجرؤ علي ردهم عن إهانتي وطردي لأنني بلا تذكرة تخوّل لي الدخول . قلت لهم : - دعوني أتفاهم مع صمويل بيكيت ، أنه هذا الذي قام بدور لاكي وظهر في الفصل الأول . ولكنهم لم يفهموني ، فهم لا يعرفون الفارق بين لاكي وبوزو وفلاديمير واستراجون . بعدما طردوني خارجاً ، وقف اثنان منهم علي بوابة المسرح لمنعي من التسلل ، ولم يبق أمامي سوي حل واحد ، هو أن أنتظر بيكيت حتي يخرج ، وتمنيت أن لا يكون قد خرج بعد انتهاء الفصل الأول ، وأثناء انتظاري كنت أفكر : هل قبل بيكيت بأن يدخل بوزو بدون لاكي ، أم أنهم قد منعوه من الدخول لغرض ما ، ووراء أفكاري كان شكي يتردد : هل من رأيته في المسرحية كان بيكيت حقاً ؟ ووراء أفكاري وشكي كان خوفي يلازمني ، فقد يتلاشي الليل في أي لحظة.