تناوبت الأقلام و تنافست العقول تبيانا للإعجاز القرآني الفريد ؛ فكثر الإنتاج الفكري في ذلك؛ ونمى التراث الإسلامي... و لعل ذلك ما دفعني إلى التنقيب باحثا عن الأثر الذي يرسخه القرآن الكريم عند سماع آية من آياته المباركات. فقد وجدت في آي الذكر الحكيم صورا مجسدة تارة و شاخصة تارة أخرى تحيل المعاني المجردة إلى حراك في نفسية السامع تجعله أكثر فاعلية مع معانيه و مراميه ، و الأدلة على ذلك كثيرة... ففي قصة سيدنا إبراهيم – عليه السلام - حينما اجتمع أهل الشرك والضلال و أعدوا له نارا هائلة بمفاهيمها المادية؛ عقابا له على ما فعله بأصنامهم المؤله... يتجسد في ذهني مشهد الاجتماع وإعداد النار ، و إبراهيم عليه السلام بمفرده لا يملك إلا قوله : "حسبي الله ونعم الوكيل"،كلمات فيها تفويض للحق - سبحانه و تعالى - للحماية والنصرة ، مقولة لا يعقبها إلا تأييد ونصر من عند الخالق جلا و علا ، و دليلي على ذلك أني سمعت الله يقول: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174 -آل عمران} بعد قوله تعالى: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173- آل عمران ) كلمات تحمل كل أسباب اليقين بالله و الإيمان بأن النصرة و النجاة آتية لا محالة. و يتجسد هذا المشهد الجلل الذي يحرك الألباب و يأخذ الأفئدة لما يحمله من دلالة انتصار الحق وضحد الإنكار و الجهل الذي غلف عقول المشركين ، ليعقبه مشهد مخاطبة الحق – سبحانه وتعالى– للنار قائلا : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69). تشخص في خاطري النار و هي تتلقى أوامر الحق – سبحانه و تعالى – بأن تكون بردا على عكس ماديتها الحارقة و أن تكون برودتها آمنة على مادية إبراهيم -عليه السلام - البشرية ...أمر إلهيي دقيق لا يحتمل الشبهة أو الالتباس ؛ حماية للنبي المرسل و حفظا له من بطش الجهلاء . صورة شاخصة تحمل ألوان الإعجاز الذي يحيل المعاني المجردة إلى معاني مشاهدة تؤكد قيومية الخالق على خلقه ، و تكون أكثر إبانة و إفهام لكل العقول و الثقافات ... هكذا شاهدت آية الحق - سبحانه و تعالى - الكاشفة عن إعجازه في إحالة الغير عاقل (النار) إلى عاقل يفهم و يدرك بمضامينها الحقيقة والمخيلة ، و لا عجب في ذلك لأني سمعت الحق سبحانه وتعالى يقول : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82). فهذه المشاهد المتتابعة المعنية بكشف مراد القصة القرآنية المباركة للمتلقي أخالها آلية إقناعية تجعل النفس تتأثر بها و تنفعل معها ، فالتصوير القرآني بما يحمله من تشخيص وتجسيم من أبرز آليات قيادة العقل البشري لفهم وإدراك مقاصد النص القرآني المبارك، و لونا من ألوانه المعجز الفريد الذي يحتاج إلى جهد الباحثين وتنقيب المدققين.