لازال القرآن الكريم يفيض بعطاءات أعجزت الإنس والجن على الإتيان بأدلة دامغة تشكك في إلهيته، فكل المحاولات الداعية إلى تكذيبه واهية ومسيرها الضياع في غيابات الزمان؛ لأنها لم يك لها أساس من الأدلة والبراهين، ومنذ أن شرعت في الدراسات الإسلامية والولوج في العلوم القرآنية. لا تزال كلمات وعبارات تطرأ على أذني من تعاليم أساتذتي تفصل وتبين أشكال وألوان الإعجاز القرآني التي اتخذت مسارات تنوعت ما بين أدلة مادية علمية وأخرى بيانية جمالية، التي بلاشك امتزجت بثقافتي التي تلقيتها من القرآني منذ مرحلة الطفولة إلى أن أبحرت في دراستي الأكاديمية، فوجدت أن ما كان يصور إلي في ذهني عند سماع آية مباركة من آيات الذكر الحكيم لم يك منفصلا عما تلقيته من أساتذتي و شيوخي، وجدت أن المشاهد الكائنة في ذهني من آيات الذكر الحكيم هي الدافعة إلى بيان مراميه ومقاصده وإن لم تك راسخة على أساس يؤصل ويقعد لها في آن. ولعل هذه المشاهد الناتجة عن المعاني المجردة أخالها من الآليات التي دفعت الوليد بن المغيرة الإفصاح عما شعر به عند سماع النص القرآني بعبارته الشهيرة "إن عليه لحلاوة وإن عليه لطلاوة إن أوله لمثمر وإن آخره لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه". ولعلني لا أخفى أنني شعرت بجمال القرآن الكريم في آياته المباركات وخاصة الحاملة للصور المجسدة لنعيم الجنة والمشخصة لنار جهنم التي بلاشك كانت لها دورها الفاعل في الترغيب إلى كل عمل يقرب إلى الجنة والترهيب من أي عمل يؤول إلى النار، ولم تك هذه الرؤية وليدة فكري الخاص بل الدافع لها والمحرك إليها النص القرآني ذاته. فقد وجدت في مواضع عدة من نصه المبارك أن آياته المباركات قد تضمنت صور زينت بإحالة معانيها المجردة إلى صورة بيانية تجسد المعاني إلى شخوص تنفعل وتتفاعل مع الحدث؛ وهذا ما أخاله دافعى الأكبر للاستشعار بجمال النص القرآني المبارك، والأدلة على ذلك لا يسعها المقال بل نشير إلى نموذج منها؛ حتى لا يضل الفهم أو تتشتت الفكرة، ففي قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) )( آل عمران). آية مباركة تحمل من ألوان الترهيب ما يفزع النفس البشرية من ارتكاب كل أمر خبيث، فهذه الآية جاءت على سبيل تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقوله تعالى : { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } أي:أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى لا يطرفون، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. وتشخص لي صورة (الأبصار) وكأنها سلبت إرادتها من صاحبها، لتكون لها أرادتها بفضل مالك الملك جل علاه، لمشاهدة ومعاينة ما فعلت في دنياها وهذا يوم ترد الأملاك كلها إلى مالكها قال تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)). إنه يوم نتيجة الامتحان الذي تتلاشى فيه المرائي الزائفة وتزول القدرة و الهيمنة الواهية، مشهد يدفع المتلقي المطمئنة نفسه إلى اليقين بكرم الحق - سبحانه و تعالى -، وتدفع النفس الخاطئة إلى محاولة الإسراع إلى مغفرة من الله وعفو، ويخيل إلى أن الصورة الشاخصة من البناء النظمي الكائن في الآية المباركة هو الذي أبان المراد وأسعف المرتاب للوصول إلى الغاية والهدف.