طلبت مني رئيسة قسم الخارجي بمجلة أكتوبر إعداد ملف عن أهم أحداث العام محليا وعالميا سنة 1996..ووضعت أمامي عشرات الملفات في أرشيف المجلة، وذلك طبعا قبل عصر الانترنت، الذي جعل الحصول على المعلومات اسهل وأسرع كثيرا مما قبل..وطلبت مني رئيسة القسم الانتهاء من هذا الملف بحلول المساء، أي في خلال نحو 4 ساعات ليكون جاهزا للنشر، وكان هذا الطلب بالتأكيد يشبه أن تقيد شخصا بالحبال وتأمره بأن يعبر بحر المانش. ولم ينقذني من ذلك المأزق سوى الكاتب الكبير الراحل سلامة أحمد سلامة ، فقد كنت حريصا على قراءة عموده الرائع في الأهرام "من قريب" يوميا، وكان بالنسبة لي دفتر أحوال وتحليلاً مختصراً وعميقاً وسريعاً لكل ما يحدث في مصر والمنطقة والعالم..ولم يكن الأستاذ سلامة يفوت حدثاً صغيراً أو كبيراً دون أن يتناوله بالتعليق والتحليل، وكان مقاله هو الكنز الذي لخص لي أحداث العام كلها في كلمات قليلة، وكان بالنسبة لي المرشد وطوق النجاة وسط أمواج الأحداث المتلاحقة. هكذا كان سلامة أحمد سلامة..مثقفا موسوعيا ومحللا سياسيا من الطراز الأول، استفاد كثيرا من الفترة التي عمل بها كمراسل لجريدة الأهرام في ألمانيا ، حيث كانت تقيم زوجته الألمانية وعائلته قبل وبعد انتصار أكتوبر 73، وهي الفترة التي استعان به فيها الأهرام أيضا ليعمل كمراسل متجول في أوروبا ، واستطاع أن يكون شبكة كبيرة من مصادر الأخبار الصحفية، ليجمع بين المهنية العالية والاحترافية الصحفية والقدرة على جمع وصياغة الأخبار، في نفس الوقت الذي تميز فيه ككاتب رأي من الوزن الثقيل، وهي ميزة لا تتوافر في كثير من العاملين بالصحافة. وكان معروفا على سبيل المثال أن الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين وهو من أعظم كتاب العمود في تاريخ الصحافة المصرية كلها، لم يكتب في حياته خبرا ولم يجر حوارا صحفيا مع أحد ولم يكتب تحقيقا صحفيا عن قضية من القضايا، على عكس سلامة الذي جمع بين الصحافة والكتابة، مثل صديقه وأحد أقرب المقربين إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل. أما مايتميز به سلامة –رحمه الله- عن هيكل نفسه، من وجهة نظري، فهو أنه لم يلون قلمه بلون سياسي، ولم يحسب على حاكم أو نظام، ولم يسخر أسلوبه الرشيق وثقافته الموسوعية وقدرته غير العادية على الرصد والتحليل لخدمة تيار سياسي معين ..لقد عاش ومات سلامة مستقلا في قراره..محترما لنفسه..مخلصا لمهنته.