جمال سلطان كتب الزميل محمود الكردوسي الصحفي بالأهرام مقالا لطيفا في المصري اليوم عبر فيه عن هموم قطاع كبير من الزملاء العاملين بهذه المؤسسة العريقة كاشفا عما أسماه "الوهم" الذي يتصوره من ينظر إلى الأهرام من خارجها ، وكنت أقرأ كلامه تمتعا بأسلوبه الرشيق فقط ، أما المعلومات التي نشرها فيه فلم تكن مفاجأة لي ، كما أنها معروفة فعلا لدى قطاع واسع من الصحفيين المصريين ، وخاصة ما يتعلق بسوق العطالة في الأهرام ، فهناك مئات الصحفيين الذين لا يعملون ، بل إن الأهرام بكافة مطبوعاتها لا يعمل فيها أكثر من ربع الصحفيين المسجلين على ذمتها ويتقاضون الرواتب وأحيانا المكافآت ، كما أن الأخبار والتحليلات والتحقيقات فيها غالبيتها العظمى مجرد تخديم على توجهات السلطات الرسمية ، كل في مجاله ، هذا مفروغ منه ، ولذلك تعجبت كثيرا من رد زملاء آخرين عليه بأنه يتهجم على إنجازات عظيمة ورسالة صحفية فذة بدليل إقبال القراء على شراء الصحيفة طوال كل هذه السنوات ، وأيضا ظهور كتاب عظام على صفحاتها كانوا رموزا فكرية كبيرة ، ونحو ذلك ، والحقيقة أن هذا الكلام كله مبالغات غير لائقة ومعاندة للحقائق ، فالأهرام هي الصحيفة شبه الرسمية للحكومة ، وكثير من العاملين فيها مجرد ميكروفونات لقطاعات رسمية ، في الداخلية والسياحة والمواصلات والإعلام وقطاع الأعمال سابقا وغير ذلك ، وأحيانا يبدو من أسلوب المادة المنشورة أن صاحب التوقيع عليها لا يملك من مادتها سوى اسمه ، ويتم مقابل ذلك مكافآت في صورة خدمات ورحلات وتسهيلات تترجم ماليا بالكثير ، وغير ذلك ، ولذلك تحظى الصحيفة برعاية حكومية قل نظيرها في العالم أجمع ، ويكفي فقط الإشارة إلى إعلان رئيس مجلس إدارتها السابق إبراهيم نافع أن مديونية الصحيفة لقطاعات حكومية تصل إلى اثنين مليار جنيه ، وهي تعتبر ديونا معدومة منها مليار ضرائب لا يجرؤ رئيس لمصلحة الضرائب أن يطالب بها أو يتخذ الإجراءات التي يتخذها مع آخرين ، ولا أظن أن هذه الهبات تمنح لأنها جريدة حرة وجريئة ، هذا هراء ، أما مسألة إقبال القارئ على شرائها فهذه تعود لأسباب أخرى مختلفة تماما عن الصحافة والثقافة والرأي والفكر وما يتصل بهم ، وأكرر هنا ما قاله لي شخصيا الأستاذ أسامة سرايا رئيس التحرير الحالي في جلسة جمعتنا في جدة أيام جوارنا في العمل ، من أن المؤسسة أجرت دراسة لاستكشاف نسب المقروئية في الأهرام واهتمامات القراء وأهم الأبواب ونحو ذلك ، فكانت النتيجة هي أن أكثر من خمسين في المائة من مقروئية الأهرام تعود إلى صفحات الوفيات ، أي والله هذا ما قاله ، ثم أضاف ، أن أعلى نسبة تالية في المقروئية هي لصفحات الإعلانات المبوبة التي تتميز بها الصحيفة ، ثم يلي ذلك صفحات الحوادث والرياضة ، ثم قال لي بالحرف : وتبقى هناك نسبة حوالي خمسة في المائة لمتابعة مقالات سلامة أحمد سلامة وفهمي هويدي وصلاح منتصر وغيرهم ، فلا داعي للعناد بالحديث عن تأثير أقلام الأهرام وإقبال القراء عليها لمستواها المهني ، وأنا أزعم أنه لو توفرت لي ولكثيرين غيري في الصحافة المصرية من الأموال فقط ما يعادل مديونية الأهرام لدى الحكومة لأنشأنا صحيفة تبدو الأهرام بجوارها طفلا يحبو في دنيا الصحافة ، وأما أعظم كتاب الأهرام في تاريخها فلم يكونوا أصلا من تكوينها وخبراتها وإنما هي مواهب تشكلت وتوهجت في تجارب وخبرات أخرى فاختطفتها الأهرام لتتجمل بها كما حدث مع بنت الشاطئ ونجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وغيرهم ، أما الآن فالجميع يعرف أن اختيار كتاب الأهرام يصدر بقرار من خارج الأهرام ووفق حسابات لا صلة لها أبدا بالمهنة والمكانة الثقافية ، وأيضا منع كتاب من الكتابة أو إلغاء وجودهم يصدر أيضا بقرارات من خارج الأهرام ولحسابات لا صلة لها أبدا بكفاءتهم الفكرية أو المهنية ، هذا كلام مفروغ منه ومحاولة إنكاره نوع من الاستهتار بعقول الخلق ، كما أن الأهرام ظلت منذ بداية العهد الناصري الصحيفة المدللة سلطويا والتي تمثل هيبة النظام ورأي السلطة السياسية ، وكانت مقالات هيكل تقرأ على أنها ما يفكر فيه الرئيس عبد الناصر ، وكانت لا تجرؤ أي رأس في البلد بعد الرئيس على الاعتراض على الأهرام ، ليس لأنها صحيفة حرة وجريئة ، وإنما لأنها صحيفة رأس السلطة ، صحيح هناك مواهب تفتحت وأزهرت في الأهرام بدون شك ، أمثال سلامة أحمد سلامة وعبد الوهاب مطاوع وسناء البيسي وغيرهم ، إلا أنها ما زالت رموزا استثنائية تؤكد عمق المشكلة ، كما أن سياسية التكديس في الأهرام أدت إلى خسارة القطاع الأكبر من صحفييها لحيوية وألمعية العمل الصحفي ، لدرجة أن أكثر من صديق كان يشتكي لي من أنه عندما يحتاج في عمل الاستعانة بمجموعة من الصحفيين يجد أن الفارق واضح جدا في قدرات وحيوية وخبرة الصحفي في الصحف المعارضة أو المستقلة عن مثيله في الأهرام الذي يكتب بشكل وظيفي متثائب ، وهذا بدون شك بسبب التهميش ومحدودية أي فرصة للعمل الفعلي في المؤسسة ، فالحقيقة أن هذه الغضبة المضرية من بعض "الأهراميين" ليس لها ما يبررها أبدا ، خاصة عندما تأتي من أشخاص معروف سلفا أنهم ممن حلبوا المؤسسة ويتمتعون بأوضاع استثنائية فيها وفي المؤسسات والأجهزة الرسمية التي يمثلونها في الأهرام أو يمثلون الأهرام فيها لا فرق . [email protected]