لا يكُفُّ صاحب تلك الجريدة العجيبة عن استضافة عدد من الأقلام المشبوهة؛ لتعمل على تحريف حقائق الإسلام، ورميه بالنقائص والأباطيل، ليحقِّقوا أغراضًا في نفوسهم، أو يشفوا أمراضًا في قلوبهم . في تلك الجريدة العجيبة، طالعَنا أحد الكتَّاب بمقال عجيب، يحتوي طعنًا واضحًا في جملة من الأحاديث النبوية الشريفة، على إثر فهمه السقيم لنصوص تلك الأحاديث، حتى راح يعرِّض بصحيح الإمام البخاري، بل بلغ إلى حدِّ الطعن في الصحابة الناقلين للسُّنَّة المشرَّفة. لقد كان ما عرضه الكاتب المحترم في جملته وتفصيله تحليلًا رديئًا وفهمًا منكوسًا لما رواه الإمام البخاري في صحيحه (رقم 4933) قال: حدثنا حفص بن عمر الحوضي، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، قال: لأحدثنكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة: أن يُرفَع العلم، ويَكثُر الجهل، ويَكثُر الزِّنا، ويَكثُر شُرب الخمر، ويَقلَّ الرجال، ويَكثُر النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة القَيِّمُ الواحد". لقد فهم الكاتب المحترم برأيه المرجوح، وقياسه الفاسد، من هذا الحديث الشريف ثلاثة أمور: الأول: أن أحاديث أشراط الساعة تحاول ربط يوم القيامة بعلامات تتَّسم بالدَّنَس الصارخ، وانتشار أشكال من الفحش وارتكاب الموبقات، مما يكاد يوحي في مخيِّلَته المريضة طبعًا أن قيام الساعة ليس أمرًا مرتبطًا بمكوِّن أساسي في عقيدة التوحيد التي أتى بها الإسلام، وإنما القيامة عبارة عن عقاب من الله للبشر على أفعالهم المدنَّسة. والكاتب يستشهد على ذلك بأن القرآن قد حدثنا عن انتشار بعض هذه الظواهر وأفدح منها، كانتشار اللواط بين قوم لوط، دون أن يربط ذلك بأي شكل بقيام الساعة. ولعلي أذكر ذلك المثل العربي الشهير: «أثبت العرش ثم انقش». لقد افترض الكاتب فرضية أملاها عليه خياله المريض، ثم راح يحاكم الحديث النبوي في ضوء فرضيته تلك. فمن أين أتى له من هذا الحديث أو غيره من الأحاديث أن قيام الساعة هو فقط بمثابة العقوبة لمن يعيش في زمانه من البشر؟ إن أمر قيام الساعة هو أخطر الأخبار الغيبية على الإطلاق، من أجل شدة الغرابة والبعد عن مألوف الناس وواقعهم وتصوراتهم وما يرونه ويحسونه، فهو من أعظم الغيوب المحجوبة عن الإنسان في حياته هذه، بل هو الغيب نفسه، الذي إذا ما انكشف ظهر لعين الإنسان كل ما قد كان يجحده ويكفر به، ولذلك أخفى الله تعالى موعد هذا الحدث وزمنه والوقت الذي يكون فيه عن جميع الخلق، بما فيهم الرسل والأنبياء، ولكنه من رحمته جعل لتلك القيامة علامات تكون بين يديها وقبلها. ولقد حدثنا القرآن والسنة عن أشراط الساعة وعلاماتها، غير أن من هذه العلامات ما هو ثابت بالخبر المتواتر الذي يورث القطع واليقين، كظهور الدجال، ونزول عيسى، وخروج الدابة، ومنها ما هو منقول بخبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن، وإن كان واردًا بطرق موصولة متفق على صحتها، ومنها هذا الحديث. فإذا تكاملت تلك العلامات، وجاء ميقات اللحظة المحتومة، انتهت الحياة من الكون، وانهار نظامه، وانتثرت أجزاؤه، ليبدأ طور جديد من الخلق والنظام والتكوين. ولا شك أن شهود تلك الأهوال المواكبة لهذا الحدث، أمر ليس بالهين على من يشهده، ولذا اقتضت حكمة الله تعالى أنه: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق» رواه مسلم. فليست مسألة عقوبة خالصة، وإنما القيامة في الأصل ركن من أركان الإيمان التي ينبغي التصديق بها، غير أن حكمة الله التي لا يخرج عنها شيء اقتضت ألا يفزع من هولها ويشهد ما فيها من الفتن إلا قوم تمحض الشر في ذواتهم واستبد بهم السوء. والأمر الثاني الذي فهمه الكاتب: أن الحديث يجعل من الشيوعية الجنسية علامة دالة من علامات يوم القيامة. وإنه لأمر تضحك منه الثكلى، فأين الشيوعية الجنسية التي تحدث عنها الحديث الشريف؟ إنها في خيال الكاتب، لقد فهم بعقله المعتل أن جملة: «يكون لخمسين امرأة القَيِّمُ الواحد»، تعني الشيوعية الجنسية، وهو ما لا يفهم من الحديث أبدا، فالقيم: هو الذي يقوم على شؤون النسوة، سواء كن أقرباءه أو جيرانه أو بناته أو تلميذاته، وليس في المسألة جنس أبدا، لكنها عقول العلمانيين الطاهرة!! قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «قوله: (القيم الواحد)، أي: الذي يقوم بأمورهن». ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الرجال قوامون على النساء﴾ [النساء: 34]. أي قائمون بأمورهن. والأمر الثالث: أن هذه الأحاديث في نظر الكاتب تنتهك غيوب الله التي أكد القرآن الكريم في مواضع كثيرة أنه لا يعلمها إلا هو، وأنه ما في الأرض ولا في السماء من يعلم الغيب إلا الله. ولا أدري من أين جاء الكاتب بهذه الخرافة، أو لم يقرأ قول الله تعالى: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا * إلا من ارتضى من رسول﴾ [الجن: 25، 26]. وقوله تعالى: ﴿ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء﴾ [البقرة:255]. أو لم يفهم بعقله الجبار أن الآيات التي تنفي عن البشر علم الغيب إنما هي لسلب العموم لا لعموم السلب؟ فلا يحيط بجميع الغيب أحد إلا الله، ولكن بعض الغيبيات يطلع الله تعالى عليها بعض عباده. ولعلي أقول: أو لم يكن من الأجدى للكاتب إن كان طالب حق أن يعرض تصوراته تلك على من هو بها عليم، ليجلِّيَها له، بدلًا من التشويش المقصود على حقائق الدين؟!