بين السجون والوطن والخصوم السياسيين والحرية والحقوق تدور القصة، كثر التمسح بمانديللا واطلاق التشبيهات به ، فهذا مانديللا مصر ، وذاك مانديللا الجزائر وذلك مانديللا تونس ! فأين أنتم من مانديللا الذي تسعى تنافس دولته اليوم على زعامة القارة ؟ وأين مانديللا فيكم ؟ خرج نيلسون مانديللا من السجن ليحيى الجميع ، والى جوار تحيته للأصدقاء والرفاق والمناضلين والشباب الثوار وللزوجات والأمهات والشقيقات ولمدينة كيب تاون وللملايين الذى وقفوا الى جانبه وطالبوا بإطلاق سراحه من جميع دول العالم ، كانت هناك تحية مدهشة أثارت اعجاب العالم كله عندما حيا هذا المناضل الافريقى الكبير سجانيه الذين غيبوه خلف الأسوار قرابة الثلاثة عقود. المناضلون الحقيقيون لا ينتقمون ولا يثأرون لأنفسهم ، انما وجدوا أن تسامحهم وعفوهم رغم الأهوال والمآسى التى عاشوها هو ما تقتضيه مصلحة أوطانهم ، وان كان الثأر الشخصى يطفئ نيرانهم الفردية ، ويشبع جوعهم المرحلى ، ويحقق لهم نوعاً شائعاً بين البشر من التشفى والارتياح. يرى مانديللا أن هناك قصصاً غير دقيقة عن تجاربه التى خاضها ، ويطلب ممن يحبون تزيين قصص التحدى أن يتوقفوا لأن الحقائق تبدوا أجمل وأكثر خدمة للواقع والوطن والأجيال القادمة ، من أن يعمد البعض لتزيينها والمبالغة فيها. مانديللا الذى عانى وشعبه من نظام يصفه هو فى مذكراته أنه " من أعتى الأنظمة التى عرفها التاريخ " .. وفى موضع آخر يصف معاناة شعبه تحت نظام التمييز العنصرى البغيض قائلا : " كانت جريمة أن تدخل من باب مخصص للبيض ، وجريمة أن تركب حافلة للبيض ، وجريمة أن تستعمل صنبور مياه للبيض ، وجريمة أن تسير على شاطئ مخصص للبيض وجريمة أن ... الخ " ناهيك عن سجنه الذى يصفه فى رسالته البليغة لثوار مصر وتونس بهذا الوصف المؤثر : " خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف شهر". فما الحكمة وراء تلك الفلسفة التى ضمنها مانديللا رسالته الى ثوار مصر وتونس قائلا : " أنا أتفهم الأسى يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة ، الا أننى أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة ". حدث بالفعل وتلك هى متاعب الثورة ماثلة. مانديللا تسامح وشكل لجاناً للصلح وآثر دعم ( دوكليرك ) وعينه نائباً له وهو نفسه الذى كان يوماً على رأس نظام الاضطهاد والتمييز وفى مقام الطاغية والجلاد والديكتاتور، فهل فعلتم ذلك يا من تزعمون شبهاً بمانديللا ؟ لم يختر مانديللا بعد خروجه طريق تغذية الأحقاد وبث الكراهية ضد البيض ، وهو طريق ما أسهله بالنظر الى ميراث الظلم والمعاناة ، وما أحلاه فى فم زعيم لا يعيش الا لحظة تناوله وجبة طعام تشعره بالشبع بعد جوع طويل ، ولا ينظر الى شعب بأكمله ينتظر منه توفير الطعام والأمن ، لا ليوم واحد ولا لفرد واحد ، بل على مدى الأيام والسنوات المقبلة لشعب بأكمله. انها مفارقة مدهشة يجدر بها أن تثير اعجاب العالم ، عندما يعفو ويتسامح زعيم مثل نيلسون مانديللا ، وقد تعرض للاضطهاد والظلم والاقصاء والمطاردة عشرات السنين ، ثم يتنازل طواعية عن الحكم ويرفض الترشح من جديد بعد أن ظل رئيساً للجمهورية لفترة واحدة فى أول انتخابات شرعية ديمقراطية متعددة. أرى أنها فلسفة واقعية وليست مثالية كما قد يصورها البعض ؛ وذلك بالنظر الى متطلبات الوضع السياسى والأمنى فى البلاد بعد الثورة ، والتى قد تتعارض مع طموحات من يخلط بينها وبين معاناته وآلامه الشخصية. فالمناضل والثائر ، انما قام وانطلق منذ البداية للكفاح ضد الباطل ، ولاقامة نظام العدل ؛ فالعداء ابتداءاً وانتهاءاً ليس موجهاً لأشخاص بعينهم – حتى لو كانوا هم القائمين على نظام الجور والظلم -. بل ان الثائر قد ينظر بعد نجاحه وانتصاره الى رموز النظام الفاسد البائد كضحايا للكراهية والغباء والتخلف السياسى والطمع والنظرة المحدودة وضيق الأفق. وهو بتعامله المدهش المتسامح المتعاون الجانح الى الوحدة ولم الشمل ، لا يقع فى خطاياهم ولا يكرر عنصريتهم ، ولا يسير فى طريقهم الجهول الملغوم بالكبر والغرور والصلف ، ولا يخطو خطوة الانطلاقة على طريق تكريس الاستعلاء والاقصاء والديكتاتورية من جديد. مانديللا بدأ بالتوقف تماما عن سرد الممارسات الدموية الشريرة المغرقة فى وحشيتها من النظام السابق. وفى الوقت الذى كان يعطى فيه مانديللا أمثلة عديدة لعظمة بعض رجال القانون البيض وعدالتهم ومن بينهم بعض القضاة الذين حاكموه ، كما يسجل كفاح ومواقف عدد من البيض الذين عملوا معه وتعرضوا للسجن والنفى والموت. انها واقعية من مناضلين محصتهم التجارب وأنضجتهم المحن والسجون ، لا يرون فيها ذاتيتهم ولا ينظرون فيها الى مصالحهم أو مصالح أحزابهم وجماعاتهم ، انما تتطلع أعينهم وتتشوق أرواحهم وتؤسس رؤاهم وأطروحاتهم لمستقبل أوطانهم ، ولواقع جديد لمجتمعاتهم ، يتمنون ويسعون لأن يكون مضيئاً مزدهراً ، ينعم فيه الجميع بالأمن وبخير الوطن ، ويتكاتف فيه الجميع من أجل تحقيق العدالة والمساواة والحرية. عنوان فلسفة مانديللا أنها " ليست معركة بين فريقين من البشر ، لكنها معركة بناء وطن. والتى لخصها مانديللا فى رسالته بقوله : " ان النظر الى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضى المرير". فهل كان حسناً وسهلاً علينا أن يذكرنا مانديللا بموقف نبينا صلى الله عليه وسلم – الذى لا أراه فقط مثالياً انما واقعياً أيضا وتصرفاً سياسياً حكيماً- . عندما يقول مانديللا فى ختام رسالته التاريخية للعرب : " وأتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم ( اذهبوا فأنتم الطلقاء )". فعظمة مانديللا كانت من هذا الطريق وسيراً على خط تلك الانارة النبوية. ونحن الأولى بها ، وما كان لمانديللا أن يذكرنا بجذورنا وسر عظمتنا ، لو كنا الأقرب لها والأكثر تمسكاً بها.