كان ذلك قبل حوالي خمسة عشر عاما ، عقب مشاركتي في مؤتمر طلابي يعقده الطلاب العرب سنويا في الولاياتالمتحدةالأمريكية ويدعون له بعض المفكرين والكتاب من عواصم عربية ، كانت الرحلة من شيكاغو إلى فرانكفورت ومنها إلى القاهرة ، مسافة طويلة ومرهقة ، ومملة أيضا وأنت في صندوق معدني طائر ومقلق ، فطلبت من صديق رفيع الثقافة أن يهديني كتابا يسليني ويؤنسني في وحشة تلك الرحلة الطويلة ، فأهداني كتاب "مذكرات نيلسون مانديلا" ، وما إن بدأت في القراءة حتى شعرت بنفسي أسيرا لروح شفافة وغريبة تنفذ إلى حناياك بخفة وعمق فتحدث فيك هزة الإحساس الطاغي بالصدق والإكبار للصلابة السياسية مع رقة النفس وروح التسامح ، بكيت بحرقة خلال تلك الرحلة ثلاث مرات ، في كل مرة كنت أطوي الكتاب وأسرح بخيالي بعيدا عن صفحاته لعل نفسي تهدأ ، وما إن أعود للقراءة حتى تفيض دموعي بغزارة يستحيل علي وقفها ، كنت أشعر بأن مانديلا هو جاري في زنزانة أربعة على واحد في سجن استقبال طره في العام 1981 ، وليس هو ذلك المناضل المسجون على بعد آلاف الأميال مني في جنوب أفريقيا . تذكرت مانديلا أمس وأنا أقرأ رسالته التي بعث بها إلى الشعبين المصري والتونسي بمناسبة نجاح الثورتين ، يبارك فيها لهما فرحة الحرية ويقدم لهما باختصار خبرته السياسية بعد انتصاره على النظام القمعي العنصري الرهيب ، ويناشد أبناء مصر وتونسي أن لا ينجرفا وراء شهوة التشفي والمطاردة لكي ما يتصل بالنظام القديم ، ليس من باب أنهم لا يستحقون ذلك ، وإنما من باب أولوية العمل على بناء نظام جديد والانتقال بالدولة وبنيتها إلى نظام ديمقراطي حقيقي ، أو كما قال هو بعبارته "إن إقامة العدل أصعب كثيرا من هدم الظلم" ، مضيفا " كيف سنتعامل معي إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟ أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم لأنه السؤال الذي دار بخلدي لحظة الإفراج عني" . وفي سياق محاولة المناضل الكبير نقل خبرته إلى الثورة المصرية والتونسية يقول :" أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس، تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء، كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة، ذاك أمر خاطئ في نظري" ، ثم يشرح مانديلا هذه النصيحة المفاجئة بقوله : "أن الشعب التونسي والمصري عليهما أن يتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، وإن احتواءهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم أن لا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم، وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته" . وينهي المناضل الذي قضى سبعة وعشرين عاما في سجون الظلم والتجبر رسالته بقوله :" إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير ، أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني، هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد" . هذه وجهة نظر مانديلا ، وهو شخصية لا يمكن التعامل مع رسالتها إلى بكل احترام وجدية ، حتى وأن اختلفنا مع بعض نفاصيلها ، لأنه المناضل الذي أذهل العالم بصلابته رغم كل ما مورس عليه من تنكيل وقهر ومن ضغوط ومن مساومات ، حتى خرج من السجن إلى رئاسة الجمهورية ، ثم قاد بلاده بعد انتصاره إلى الديمقراطية في ظروف أصعب كثيرا من ظروف مصر وتونس ، قطعا هناك تفاصيل لم تكن تحتملها الرسالة ، ولكل مجتمع خصوصياته ، ولا يمكن التسامح مع من ارتكب جرائم مثبته في حق الوطن ، خاصة الجرائم التي تعلقت بأرواح البشر أو المال العام ، ولكني أتصور أن بعض ما ورد في رسالة مانديلا يمكن أن يضع أيدينا على مفاتيح مهمة ، تعيد الاتزان والاعتدال والإيجابية والإحساس العالي بالمسؤولية إلى الثورة المصرية ، .. والله أعلم . [email protected]