إلى مصباح هناك حيث ذر التراب يتراكم على ما تبقى من أحلام هاهي حفنة من الأوراق أمامك، لاتتردد في إيداع نفسك داخلها دون حساباتك المعقدة، فرصة أخيرة للعودة لأدبك القديم ولياليك الحالمة، مزق جراحك داخلك وبعثرها دون حرص على الأوراق التي مازالت بيضاء رغم كل شيء، انثرها دون نظم، دون حرص؛ فممزقو الأشلاء ليسوا في حاجة لينظموها..! تبدأ الحكايات عندك لتموت؛ فتعود من جديد ناصعة براقة أخاذة ألوانها تغريك؛ فتبدأ لتموت وتقتل في نفسك شيئاً جديداً في دورة أبدية صنعها الزمن والوهن والوحدة والأوهام... هاهو إسفلت قريتك يعود إلى قدميك لتدميها فوقه من جديد، الزرع يملأ الحقول بلون باهت لم تكتمل له الخضرة، آثر الشتاء القاسي أن ينزع عنه لونه ويستبدله بالأصفر الباهت، كل شيء هنا يبعثك على سجيتك الأولى التي كرهتها رغماً عنك، لذت بالفرار منها حين نقلت أوراقك من الجامعة الإقليمية إلى فضاء العاصمة الأرحب، هربت نحو الأحلام، أهازيج أوهام جعلتك أعواما الأفضل أمام نفسك التي وشيت إليها بالخديعة وفضيلة ادعت صداقتك وصدقتها دون أن تخجل من نفسها في زمان لم يعد لها.. مصباح هنا من جديد أيتها القرية الغافلة يمضي بين حواريك مساءً بعد أن يودعك الناس ويسترهم الليل.. تمضي في الظلمة تلتمس ضياءً أخيراً تشعل سجائرك الرخيصة تدمي عقلك أو تستجديه في البقاء، تلفحك البرودة ويلفك الصقيع ولا تبالي فالشتاء هذا العام تآمر عليك هو الآخر؛ فقد أتاك وأنت مفلس.. تستتر بكثير من الملابس الصيفية ولا تفي بالغرض، يتجمد جسدك ويعتاد البرودة ويدب الجمود في عقلك لتتراخى أنفاسك وترحب بالموت الذي يرفضك رغم كل شيء.. أذن الفجر وقطع الصمت وجاد باليقين، لكنك تركت اليقين منذ كثير، ولم تعد تصلح لاقتنائه، آمنت به إيمانك القديم بالحب قبل أن تستأنسك الفضيلة، ترى الآن يقينك الماضي وقد ولت خطاه ولم يعد يصلح للحياة!!.. هل جننت وهل تخط بقايا عقلك في تلك الأوراق؟!، ربما ولم لا.. حسنا فعلت إذن.. على دراجتك القديمة كنت تجوب شوارع تلك البلدة التي لم تتبدل وكأنها تذكرك بحالك.. بأحلامك.. منذ نما طموحك كمشروع رجل، حلمت بمصاحبة فتاة رأيتها يوماً زاغ لها بصرك لكنك دفنت حلمك الأول داخلك، واكتفيت بالاحتفاظ بذلك الوجه الجميل دون أن تبوح، تمضي خلفها لتراها، تجدد صورتها داخلك، تملأ صدرك بالهواء الذي يمرعليها!، ثم ترفل في فراشك في المساء تستحضر صفحة وجهها الذي لم يكتب الحرمان عليه سطراً.. كان عليك أن تستذكر دروسك كي تقفز فوق أحلامك فهذا هو المشروع الوحيد الذي يمكن أن تراهن عليه كما نصحك طباخ البلدة المسكين ذو الخمسين ربيعاً، الذي ماتت أحلامه في مهدها وكان يحلو له أن يصفك بالمشروع الرابح ببركة أبيك المتوفى صاحب الأعمال الصالحة، التي ولابد ستبقى لك.. حسنا هذا ما فعلت، ولكن عتبة الأحلام كانت صلدة، في كل مرة تسقط على وجهك تدمي قدميك كما تدميها الآن فوق إسفلت جامد وفراغ مقفر ممتلئ بصوت الضفادع والعشب الذابل، ونهر لم يعد كذلك، صار جدولاً محاطاً بالأشواك، تلهو فوق جنباته الفئران وداخله أسماك جائعة لا تجد ما تقتات عليه، تنظر وتمضي مسرعاً.. أحلام وما للأحلام من سبيل.. دنيا وما في الدنيا من طريق.. .. التحقت بالجامعة وكسرت حواجزك القديمة لتقفز فوق حواجز عاتية أكثر صلابة في مواجهة جسدك الهش وعظامك الذي عزف عليها البرد سيمفونية طويلة غير مكتملة التصنيف!.. أنت تهذي يامصباح، كفى حديثاً وتوقف، فقد خانك النظام وخانك الأدب وعبثت بك الكتابة، توقف ولا داعي لمزيد من النواح، توقف عن أهازيج الجنون فأنفك ليس في حاجة للنفخ فيه.. لا.. لا تتوقف، ربما تكون النهاية؟ من يدري؟!. إلى رحاب العاصمة ذهبت بجسد نحيل وقليل من الوسامة وكراسة محاضرات وأقلام.. إلى كلية التربية إذن، لم تكرهها يوماً لكنها كرهتك.. كنت تناقش أساتذتك وهذا فعل فاضح في الحرم الجامعي!، لماذا لم تصمت؟!، لماذا لم تكن طالباً عاديا هامشاً كباقي القطيع؟!، قراءاتك.. ومن يقرأ؟، ثقافتك!!، ومن قال إنها بضاعة رائجة في الوطن ياعزيزي.. تركت الجامعة في السنة الثالثة لوهن ألمّ بك من كثرة الرسوب.. أنت من تحدى أساتذته وقال عنك زملاؤك هذا الريفي الغبي تحدى الجبال، سيموت ولا شك، وقد مت بكراً.. ابتسمت للعمل التمست فيه حياة وأقفلت في وجه العلم.. راجت بضاعتك في العمل مما دفعك لمواصلة أحلامك في سلك آخر، صرت تقرأ كثيراً.. تخط أحيانا بعض الأشعار، تدفنها في درج عتيق في غرفة ذات سقف خشبي تغطيها بالصفيح في الشتاء.. ارتضيت بالمكوث فيها هكذا ليمنحك باقي المال فائضًا من المظهر الحسن، يضيف لوجهك قليل من الوسامة.. كرست كل جهودك لتصبح شاعراً، ارتدت أماكن المثقفين، لم يلفظك أحدٌ كما لم يشعر بك أحد..!، حياتك الجديدة صنعت لك ألواناً لم تعرفها من قبل.. تعمل في الصباح في مصنع للملابس، تباشر عاملات "السينجل، والأوفر" في الصباح، وتجالس المثقفين في المساء.. وأما عتبة المثقفين فلم تكن فيها صاحب رأي، كنت مستمع فقط فضلا على أن أحداً لم يشعر بوجودك، كما إن المسابقات لم تعترف بك يوماً ولو مجاملة، كنت تؤمن داخلك بموهبتك العميقة كنت تردد دائماً " الحياة تجربة والشاعر تجربة وأنا الاثنين".. تركك العمل قبل أن تلملم أشلاءك المبعثرة، أو تخطو سلمه أولى في نشر أشعارك، جاهدت في البحث عن آخر، جاهدت الدنيا في ركلك أكثر وأكثر، لم تجد سوى وظيفة عامل حيث كانت الوظائف المتوسطة محجوزة للمؤهلات العليا. هاهو بحر العلم يعود بأمواجه ليلطمك من جديد..ليطفأ المصباح الأخير داخلك.. كنت تمضي مساءً في شوارع العاصمة، تشكو لليل وللظلمة وللطريق، قبل أن تقودك نفسك إلى ركن صغير في شارع مهجور متهدمة مبانيه، لترى أسراب الجياع نائمين، ملتحفين البرودة والسماء، بين الأدراج المتهدمة، أماكن تصلح لقبور، لكنها تحمل في أحشاءها أحياءً، ينامون في صبر تحسدهم الأيام عليه، يثير ذلك المشهد داخلك إنساناً آخر، قادراً على الحياة.. مذ وطأت قدميك العاصمة عثرت على هذا الشارع صدفة، وقفت يومها ترثوا لحالهم، وعدت تمضي من هنا كثيراً كلما أجهزت عليك الدنيا تأخذ ترياقا وتمضي.. مريض أنت يا مصباح، تأخذ العبرة من ساكني القبور، هذه عادة لم يعد يفعلها أبناء جنسك.. تركت كل شيء بعد أن أسقطتك السنون من حساباتها، مسمارين بكتفك الأيمن كانا كافيين ليكتبوا النهاية على إثر جوال من الإسمنت سقط سهواً أو عمداً "لا يهم"، لتعود إلى الوطن الأول.. ها هو مصباح يعود إلى قريته محتفظاً بأحلامه تحت وسادته التي لم تحمل يوماً مستنداً رسمياً يعترف بوجوده، قالوا يتيماً ومصمصوا شفاههم على حاله، لم يترك له أبوه سوى بيتًا من الطين.. وقال الخبثاء إنه يحلم دائما بالمعجزات، ولا يريد العيش مثل أهله.. نسوا أنك بلا أهل، بلا وطن، بلا أوراق..! تسائلني الطرق من جديد، إلى أين يا مصباح؟!، ليلك غربة، إلى أين المآب؟، إلى الجوع المنتظر، إلى أقرانك الضالين، المهمشين الذين قتلوا الصبر وآثروا الصمت، الذين ضلوا الطريق وأخطأوا حين حلموا، حين نظروا للسماء فشعروا لأسباب ليست لها صلة بهم أن فضاء الحياة أكبر من أكل العيش وإن الترف والكنوز أشياء دنيا، تجعل من الإنسان أداة لخدمتها لتختمر العقول وتتخم.. من أين لك بنار تحرق كل شيء حولك، لتعيد الحياة إلى سيرتها الأولى.. ها هي سجائرك قد نفدت مثل كل شيء تملكه، أما كان عليك أن تتركها قبل أن تودعك هي الأخرى دون سابق إنذار.. تزداد البرودة، ويئن فؤادك، يريد لو يأكل الصبر قبل أن يلتهمه، يذكرك بالخيبة الأخيرة، ينطلق قلبك مذعوراً متذكراً.. رأيتها تمرح بين جنبات القاعة الكبيرة بدار الأوبرا، تعثرت بعينيها هناك حيث الآلات الموسيقية تعبأ الأجواء بروح السحر، حدثتك روحك بوجودها قبل أن تجدها عيناك، ولما بدت انسيابيتك وشعورك الذي حرك خلايا وجهك شعرت بك.. كأنه الحلم الذي انتزعك من غباوات الواقع إلى أرض خصبة تلقي فيها بنبتك الشائك فيتحول ورداً بضاً.. يومها ابتسمت داخلك كما لم تبتسم من قبل، وشت لها ابتسامتك بأريحية.. بمزاج رائق يصاحب ذلك الكائن، حدثتك وحدثتها، كذبت لأول مرة، كنت ترى حالك دون كذب افتراءً على ذاتك!!، أعجبت بتلقائيتك وأثنت على شعرك محللة إياه كأنها تقرؤك، وكادت الحياة أن تبتسم، لولا ما حدث لكتفك.. عالجك المقاول، وأعطاك مبلغ من المال ونصيحة للعودة إلى الوطن الأول، حيث تجد هناك من يهتم بك.. كنت تتحدث إليها أثناء إصابتك معللاً اختفاءك بازدحام العمل، قبل أن تبيع هاتفك وتضيع سدى، تحمل داخلها مشاعر مؤجلة وقلب أوشك أن يحبك، وتزيدك جراحاً وخيبات متلاحقة كحصان في مضمار لا يكف عن الوقوع ولا يتنازل عن الفوز.. كنت تريد حقاً أن تواصل بها، قطعت عهداً أن تحول أوراقك لجامعة أخرى لتكتب حياتك من جديد.. تواصل لأجلها ولأجل البقايا الباقية فيك، لكنك الآن تكتب على أوراق أخرى "جراحك"، هذا كل ما تملكه.. أعطتك انطلاقة نحو شعر بلون الزهور، صار يعانق قلمك، لن يسعفك الآن لتعبر به، حتى جراحك تنثرها على طريقة كتاب القصة، لتخرج لك كل أحلامك لسانها وما عليك سوى السلوان.. أما آن العيش دون أحلام، تنظر حولك، تصاحب أصحاب المخدرات لتسمع حكاياتهم وتسمعهم حكايتك، ربما سيسخرون منك، أو يرثون لحالك، أما كفى انكفاءً على ذاتك فتخرجها للنور؟، أيّ نور حتى لو قاتم!.. ما أصعب أن تعيش هكذا دون اختيار، دون حاجة لأي شيء سوى النسيان أو البحث عن وجبة جديدة، وعلبة سجائر جديدة، كأنك كنت تكفر بالمادة لتشقى بها، "سبع وعشرون عاما"... جاحدة هي السنين، تمضي ولا تبالي ككل شىء.. هيا أغمض عينيك وارتقب رسالة تأتي من ساعي بريد أخطأ العنوان