ألقيت نظرة سريعة على المكان علني أجد مقعدين شاغرين في تلك الكافتيريا الصغيرة في وسط البلد، ولكن يبدو أنها كانت ملاذا لكثيرين مثلنا هرعوا إليها احتماء من لسعة الشمس الحارقة والرطوبة الخانقة بالخارج، كدت أنصرف لولا أن لمحت فتى وفتاة يهمان بمغادرة مقعديهما فسارعت نحوهما وبمجرد انصرافهما بادرت بالجلوس على أحد المقعدين وأمسكت بالآخر خشية أن يأتي من يجلس عليه، ثم نظرت نحو الباب مشيرة لإبني كي يدخل.. كان متكئاً على الباب في تراخٍ.. واضعاً يديه في جيوبه.. مرتدياً ملابس فضفاضة تكاد لوسعها أن تسقط من عليه.. وبأذنيه التصقت سماعاتان سوداوان لا أتذكر على وجه التحديد آخر مرة رأيته بدونهما، كان يحاول قدر إمكانه أن يتجنب النظر في اتجاهي خشية أن يتهمه أحد بأنه يعرفني.. ولكنه لمحني أتهيأ لأن أناديه فلم يجد بدا ًمن التحرك نحوي تجنباً لوقوع الكارثة. بداية غير مشجعة لا توائم الغرض الذي أتينا لأجله..ولكن لنحاول على أي حال! كان يوماً من أيام شهر يوليو شديدة الحرارة.. وقد قررت أن أصطحبه لتناول الآيس كريم في أحد الأماكن اللطيفة في محاولة لإضفاء نوع من الحميمية والتقارب على علاقتنا التي بدأ يشوبها نوع من التوتر في الآونة الأخيرة. أعترف بأنني ساهمت في أن تزداد الهوة التي بيننا عمقا حين سمحت للأيام أن تجرفني بعيداً عن نفسي وعنه.. وأنني بدون قصد مني سقطت في الدوامة التي سقط فيها كثيرون.. دوامة اللهث وراء المأكل والمشرب والملبس.. فلم أنتبه لذلك البرعم وهو يتفتح بين يديّ يوماً بعد يوم.. ولما أفقت عليه وجدته على مشارف المراهقة، وإذا بقامته قد اشتدت حتى كاد يفوقني طولاً، وإذا به.. بعيدا عني كل البعد. في الأسبوع الماضي بذلت إحدى المحاولات الفاشلة للتقرب منه.. فذهبت إليه وسألته أن يُسمعني بعض الأغنيات الأثيرة لديه وقد أثار طلبي هذا دهشته لأن كلانا يعلم علم اليقين أنني ليس لدي أي ميول موسيقية على الإطلاق، ولكن سرني أن لمحت الاهتمام في عينيه وهو يسارع باصطحابي إلى غرفته ويجلسني على كرسي مكتبه ليُسمعني "أفضل" تسجيلاته، وبينما أنا أعتدل في جلستي استعداداً لسماع الموسيقى الجميلة إذ بي أنتفض فجأة على صوت ظننته في بادئ الأمر انفجارا ًولكن سرعان ما تكشف لي أنها الأغنية، لما نظرت إليه فوجدت وجهه تعلوه الابتسامة ورأسه يتمايل في انسجام مع إيقاع شديد الإزعاج.. هذا عن اللحن.. أما عن الكلمات فحدث ولاحرج، فبرغم المجهود غير العادي الذي بذلته في الإنصات، إلا أني بالكاد استطعت تمييز بعض الكلمات من هنا ومن هناك وقد يكون هذا من فضل ربي الذي أراد أن يجنبني سماع ما قد تشيب لهوله الولدان.. المهم أنني ظللت حبيسة الكرسي لبعض دقائق متخذة مظهر الانسجام بينما عقلي يتسابق في كل اتجاه باحثاً عن ذريعة للهروب من هذا الموقف.. وأخيراً نهضت واقفة مدعية أن ورائي الكثير من الأعمال المنزلية.. ثم أومأت بالإيجاب وأنا أهرول خارج الغرفة لما سألني إن كانت الأغاني قد أعجبتني. واليوم ها أنا أكرر المحاولة وها هو يجلس قبالتي بوجه يعلوه الضجر وأنا عاجزة لا أدري من أين أبدأ.. ولكنني رفضت الاستسلام للفشل مرة ثانية وقلت: "أعلم أنك جئت معي مرغماً".. فقال: "ماذا دعاكِ لأن تقولي هكذا؟".. فأجبته بابتسام: "لأنني أستطيع قراءة مايجول بخاطرك"، لم يعلق وعاد الصمت يسود بيننا من جديد.. وبينما أنا أفكر في مادة للحوار، إذ بصوت موسيقي صاخبة يعلو في المكان.. فتشتت تفكيري واغتظت وقلت: "المفروض أن يوفروا جواً هادئاً للناس كي تستطيع أن تسمع بعضها.. ثم إن هذه الموسيقي مزعجة جداً".. ما أن قلت هذا حتى فوجئت به ينفجر في موجة من الضحك. لم أدر سببها ثم قال - بعد أن هدأت حدة ضحكه - "على فكرة أنا أعلم أن الأغاني التي أسمعتها لك الأسبوع الماضي لم ترق لك"، فابتسمت محاولة مداراة إحراجي وسألته: "كيف عرفت؟".. فقال: "هذه التي نسمعها الآن هى إحداها".. ثم أضاف وهو يغمز بعينيه: "لست وحدك التي تستطيعين قراءة الخواطر.. أنا أيضاً أفهمك بغير كلام.. وشد ما أكره أن أعترف بذلك ولكننا تجمعنا الكثير من الصفات المشتركة"، وكتأثير الآيس كريم في عز الحر نزلت هذه الكلمات على قلبي، إنه أنضج مما ظننت ويبدو أن الطريق إلى قلبه أسهل كثيراً مما كنت أتوقع!