ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على شقة سكنية شمال غزة إلى 3 شهداء    في لقاء أخوي، السيسي يلتقي ولي العهد السعودي في مشعر منى    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    لجنة الحكام تُعلن عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك والمصري البورسعيدي    تشكيل منتخب النمسا المتوقع أمام فرنسا في أمم أوروبا 2024    حقيقة عودة كهربا إلى الدوري السعودي    "لبس العيد شياكة وأناقة".. بيراميدز يعلق على إطلالة لاعبيه    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    وفاة مواطن من الفيوم أثناء تأدية مناسك الحج بالأراضي المقدسة    أثناء رمى الجمرات، وفاة رئيس محكمة استئناف القاهرة خلال أداء مناسك الحج    بالطيارة وبشكل عاجل، لحظة نقل حاج مصري أصيب بأزمة قلبية لإجراء عملية جراحية (فيديو)    خايفة عليها، عبير صبرى تكشف سر منع شقيقتها من التمثيل، وأختها تكشف مفاجأة عنها (فيديو)    الصحة تُوجه نصائح مهمة للعائدين من الحج.. ماذا قالت؟    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    مشاهد توثق اللحظات الأولى لزلزال بقوة 6.3 ضرب بيرو    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    إدمان المخدرات بين الهدف والوسيلة    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    صفارات الإنذار تدوى فى كيبوتس نيريم بغلاف قطاع غزة    محافظ جنوب سيناء يشهد احتفال أول أيام عيد الأضحى بالممشى السياحى بشرم الشيخ    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هل تتمتع الحيوانات بالوعي؟ كيف تغير الأبحاث الجديدة المفاهيم    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    «إيمي» تطلب الطلاق بعد 10 أيام لسبب غريب.. ماذا كتبت في دعوى الخلع؟    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    بيلينجهام رجل مباراة إنجلترا وصربيا في يورو 2024    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    فقدان شخصين جراء انقلاب قارب في ماليزيا    موعد مباراة إنجلترا والدنمارك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة    من التجهيز إلى التفجير.. مشاهد لكمين أعدّته المقاومة بمدينة غزة    وزير الداخلية السعودي يقف على سير العمل بمستشفى قوى الأمن بمكة ويزور عدداً من المرضى    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    ممثل مصري يشارك في مسلسل إسرائيلي.. ونقابة الممثلين تعلق    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    خفر السواحل التركي يضبط 139 مهاجرا غير نظامي غربي البلاد    وفاة الحاج الثالث من بورسعيد خلال فريضة الحج    زيلينسكي يدعو لعقد قمة ثانية حول السلام في أوكرانيا    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    بعد كسر ماسورة، الدفع ب9 سيارات كسح لشفط المياه بمنطقة فريال بأسيوط    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العذراء الخضراء ( قصة )
نشر في شباب مصر يوم 03 - 01 - 2012


إنها أسطورة لا وجود لها !
حلم لذيذ مخيف يداهم الصبية في مرحلة المراهقة وإرهاصات الرجولة فيخيل لهم أن الجنية الحسناء ابنة الأرض وحفيدة السماء واقعة في غرامهم وتنتظرهم في عبر الأنهار !
ما أسخف هذه الأسطورة .. ما أسخفها وما أكذبها .. وما أصدقها في نفس الوقت !
ولكن أسمحوا لي في البداية أن أقدم لكم نفسي أولاً .. أنا البروفسور " سيجرد أورلوك " .. نرويجي أفخر بأوسلو كما أفخر ب " ثور هايردال " مواطني المستكشف العظيم الذي حبس أنفاسنا في شبابنا المبكر برحلاته الخارقة الفظيعة على متن ( رع 2)
درست الأدب النرويجي والأساطير الشمالية العتيقة في جامعة ( أوسلو )
.. ثم أنتهي بي الحال إلى تدريسها .. وهكذا أعتبر نفسي أكثر البشر حظاً .. درست ما أحبه ثم درسته .. ثم أصبحت علامة مميزة لدراسات الأدب النرويجي والميثولوجيا الشمالية .. إن الأساطير الجرمانية والدانية لا تنتهي .. على أن أسطورة واحدة جذبت انتباهي بشدة .. دعك من ( تور ) و ( أوتغارد ) و ( سيغورد ألفولسونغ ) .. فكل هذه قتلها دارسوالأساطير الشمالية بحثاً حتى لم يعد بإمكان أحد أن يضيف في هذه الموضوعات ..ولكن ماذا عن العذراء الخضراء ؟!
" مادين أويهاين " الفتاة المسحورة ذات الأطراف الشجرية العملاقة .. الفتاة التي قيل أنها تغوي الرجال والشباب وتستدرجهم لتغرقهم في البحر .. ولماذا تستدرجهم لتغرقهم في البحر ؟! الجواب بسيط : لأنه كلهم يفعلون ذلك في الأساطير طبعاً !!
ولكن ماذا يعني كل هذا .. ماذا تعني أسطورة جديدة لرجل حياته كلها أساطير ؟!
وهكذا عكفت على دراسة الموضوع بدقة كعادتي .. ثم كتبت عنه دراسة ضخمة تجعلك تتخيل إنها خطة محكمة للسيطرة على العالم !
وطبعاً قدمت الدراسة إلى الجامعة التي أحتفت بها .. وبعد أيام ناقشتها مع بضعة من علماء الجامعة الأفذاذ في نفس تخصصي .. وبعد بضع أيام أخري حصلت على ترقية في درجتي العلمية وزيادة كبيرة في راتبي !
وبإختصار الهراء المعتاد الذي يحدث كل مرة !
عندما بدأت قصتي العجيبة تلك ؛ التي لن أنساها والتي أدونها في مذكراتي لا لشيء إلا لأحتفظ بها لنفسي ؛ حتى لا أنساها في غمرة الكبر والإصابة بالزهايمر كما يحدث لسائر المسنين .. وذلك لأنني إذا أخترت ذكري واحدة من كل حياتي أظل أذكرها للأبد وتلازمني بقية عمري لأخترت ليلة الثالث والعشرين من مارس هذه .. الليلة التي حدثت فيها هذه القصة !
لم يكن الأمر في بدايته ذا بال .. مجرد رحلة ترفيهية سخيفة قرر طلبة القسم القيام بها لمشاهدة دوامة ( المالستروم ) الهائلة عند جزر ( لوفوتن ) .. في الحقيقة لم أكن متحمساً إلى هذا الحد .. ولكن الطلاب ؛ سامحهم الله ؛ أصروا على أن أرافقهم في رحلتهم هذه .. وكأن قلبي ذو الستين عاماً يتحمل أن أُعلق على ارتفاع مائتي متر عن سطح البحر أو أن أتسلق صخور ( لوفوتن ) الوعرة .. المهم أنني في النهاية رضخت وقلت لنفسي :
" جرب يا " سيجرد" .. ستموت وأنت لم تشاهد ثلاثة أرباع بلادك ! "
وهكذا وافقت .. وحتى الآن لا أدري لم اختارني القدر أنا بالذات لكي أمر بهذه التجربة ؟!
************
تركت للطلاب إعداد كل الترتيبات واللوازم الضرورية للرحلة .. عندما يخطط الشباب وينفذون فمن الأفضل للعجائز أن ينزو في الركن ويرقبوا الأمور دون تدخل .. وهذا ما فعلته بالضبط !
حتى وجدت نفسي يتم إقتيادي فوق صخور ( لوفوتن ) العملاقة دون حتى أن أذكر متى أحضرني الشباب إلى هنا !
كانت الرحلة تضم طلبة القسم بأكملهم .. صحيح أن عددهم لم يكن كبيراً .. لكن فكرة تواجدي في مكان واحد معهم كلهم ملأتني رعباً .. إنهم ثلة من الشباب المرح الصاخب الطائش وانا أُعتبر في هذا الموقف ؛ باعتباري أستاذهم ؛ مسئولاً عنهم .. فماذا لو إصاب أحدهم مكروه أو تهور أحدهم فأتى بحركة طائشة أثناء احتدام الدوامة المهولة .. وأي دوامة ؟!
أنت لم تري ( المالستروم ) من قبل ؟! فأسأل " بو " عنها .. لقد جعلها واحدة من كوابيسه المخيفة .. أو أجلس يا بني وأنت ساكت !
وهكذا انتابني الذعر عندما وجدت " أنستيد " و " ستورلسون " يقترحان أن نقف على الصخرة المدعوة ( هلسغن ).. الغائمة شخصياً لنشاهد الدوامة من نفس الموضع الذي شهدها منه بطل قصة " بو " الشهيرة ..
أعترضت طبعاً ورفضت بشدة .. ولكن بعد دقيقة وجدت نفسي واقفاً فوق الغائمة وسط طلابي الأعزاء .. دون أن أدري كيف اقتادوني إلى هناك !
عندئذ تقمصت شخصية المسئول بكل حزمها وبرودها وقلت لهم :
" سنبقي هنا لوقت أكثره نصف ساعة .. ثم نعود أدراجنا ! "
وطبعاً لم يجيبني أحدهم .. فهذه هي اللحظة التي يصاب الشباب فيها بالصمم !
كانت هذه هي البداية .. أما الطامة الكبرى فكانت آتية بأقصى سرعة !
فلم نكد نقف فوق الغائمة لحظة حتى انطلقت " ايدا " تلميذتي الشهباء بالغة النحول تقول بصوتها الرفيع المغنج :
" ما رأيكم يا شباب .. هناك الكثير من القوارب راسية هنا .. لماذا لا نستأجر أحدها ونذهب إلى جزيرة ( موسكو ) لنشاهد الدوامة بشكل أوضح ؟! "
عليك اللعنة يا ابنة .... !
هلل ( الشباب ) للاقتراح المتهور وامتلأت نفوسهم بالرغبة في تنفيذه وكأنه صار هدف حياتهم الأوحد !
وعبثاً حاولت إقناعهم بخطورة هذا الأمر خاصة لو باغتتنا الدوامة قبل وصولنا إلى الجزيرة الصغيرة .. ولكن الشباب أنبروا يدافعون عن هذا الاقتراح الأبله بكل طريقة وتباينت أقوالهم وأعذارهم السخيفة :
فالولد " أودون " هتف بصوت ملؤه الحماس :
" لا تخف يا بروفسور .. سنبحر إلى هناك في ربع الساعة التي تقع بين المد والجزر ثم سنبقي هناك حتى فترة الهدوء التالية ثم نعود فوراً ! "
قلت له ساخراً من بلاهته :
" فوراً ؟! هل تعرف أن فوراً هذه ستستغرق ست ساعات كاملة .. ففترة الهدوء التالية لا تبدأ إلا بعد ست ساعات ! "
فأجابت " ايدا " على الفور :
" وماذا في ذلك يا سيدي .. أليس هذا يوم رحلتنا .. أرجوك نريد أن نري المالستروم من جزيرة موسكو .. أرجوك .. أرجوك ! "
وفجأة أنطلق ستة وعشرون صوت مرددين بشكل متكرر كأنهم ببغاوات مدربة على ترديد هذه الجملة دون غيرها :
" أرجوك .. أرجوك يا بروفسور ! "
وطبعاً تماماً كما توقعت وافقتهم .. لكن بعد أن جعلتهم يعدونني بعدم الإقدام على أي خطوة مجنونة .. وهكذا أتجهنا نحو رجل أشقر فارع القامة ضخم البنيان كان عاكفاً على إعداد زورقه للإبحار وبدأ الأولاد يحادثونه برغبتنا في استئجار زورقه لنقوم برحلة قصيرة إلى جزيرة ( موسكو )..
وما إن سمع الرجل كلمة ( جزيرة موسكو ) حتى ترك ما في يده ونظر لنا بحدة وتساءل :
" ماذا ؟! "
فأعادت " ايدا " الطلب .. وهنا تحول الرجل ليحدجني أنا بنظرة حادة فهمتها على الفور .. إن الرجل يريد أن يقول لي ببساطة :
" أعرف أن هؤلاء صبية مزعجون بلهاء يحبون المغامرة .. ولكن أنت أيها العجوز الأحمق لماذا تسايرهم في جنونهم ؟! "
والحقيقة أن نظرته كانت جارحة لدرجة تمنيت معها لو كان هناك قانون في أي مكان من العالم يعاقب على النظرات الجارحة .. عندئذ كان هذا الرجل لن ينال أقل من حكم بالإعدام !
وبمجرد أن أنتهي الرجل من إهانتي بعينيه الثاقبتين حتى أولانا ظهره وهم بالأنصراف .. ولكن الأولاد حاصروه وأخذوا يرجونه أن يسمح لنا باستعمال زورقه .. ولما فشلت الأساليب الذكورية جاء دور الفتيات اللائي استخدمن جمالهن في إقناعه .. طبعاً لم يتجاوز الأمر بضع ضحكات أعلى قليلاً مما ينبغي ، فلم أكن لأسمح بشيء أكثر من ذلك بطبيعة الحال .. ولكن ؛ لشدة تعجبي ؛ فإن الرجل أستسلم وتراجع على الفور أمام سحر الفتيات .. وهكذا تبين لي أنه رجل من هذا النوع !
ولكن إحقاقاً للحق أقول أن الرجل حاول إقناعنا بالاكتفاء بالتجول بالزورق أمام شاطئ ( لوفوتن ) .. ولكن الأولاد كانوا مصرين كالبعوض .. وهكذا قبل الرجل في النهاية أن يؤجر لنا زورقه ست ساعات بمبلغ خيالى .. ولكنه أصر في نفس الوقت على أن يصحبنا في رحلتنا إلى جزيرة ( موسكو )
ولا أستطيع أن أصف لك كم أسعدني إصراره هذا وأراحني !
وهكذا أعد الرجل الزورق وقام بتشغيل محركه البخاري .. بينما تكدسنا نحن فيه بشكل عشوائي .. ووجدت نفسي في النهاية وحيداً وسط ثلاثة عشر زوج من الطلبة .. فكل طالبين أو طالب وطالبة أنفردوا بأنفسهم .. وتركوني وحيداً لأجد نفسي مضطراً للأئتناس برفقة صاحب الزورق الطيب الذي وقع في هواي من أول نظرة !
وبدأ المحرك يهدر .. وبدأنا نتحرك مبتعدين ؛ شيئاً فشيئاً عن ساحل ( لوفوتن ) ..
في البداية كنا نبحر بهدوء تام وكان الرجل الذي عرفت بعد قليل أن اسمه هو " فولسنك " يسيطر على الزورق بثقة كاملة .. وفي الحقيقة لقد راقني منظره ؛ وأنا العجوز المعدوم اللياقة تماماً ؛ وقد خلع قميصه وأخذ يعمل بفانلته الداخلية وقد أنتفشت عضلاته الضخمة الجميلة وأعطته منظراً أشبه ما يكون بتماثيل الأبطال الإغريق البرونزية .. ومن هنا بدأت أجاذبه أطراف الحديث فأكتشفت ؛ لشدة دهشتي ؛ أنه مثقف بعمق .. ولديه مخزون كبير من المعارف في كل شيء تقريباً بما في ذلك مجال تخصصي في الأساطير والميثولوجيا الشمالية .. وأعذرني على دهشتي فالحق أنني لدي انطباع معين أن كل من يعلمون بمهن غير علمية أو بحثية هم مجرد هياكل عظيمة مكسوة لحماً وخاوية من الأمخاخ دون شك !
ولكن الرجل أكد لي زيف اعتقادي السابق وسذاجته رغم أنه في الحقيقة اعتقاد الكثيرين أمثالى !
المهم أننا ؛ وقد وجدنا أنفسنا منفردين معنوياً ؛ أضطررنا أن نتقبل هذه الحقيقة ولذلك أنخرطنا في حديث ثقافي حول الأساطير الجرمانية والشمالية وأمور البحر والصيد والأسماك والزوارق والمراكب والسفن .. وهكذا أنتقلنا من موضوع لآخر حتى وجدنا أنفسنا في النهاية نتحدث حديث طويل حول هذه الظاهرة الطبيعية العجيبة .. ظاهرة دوامة ( المالستروم ) ..
في الحقيقة أن الرجل كان ملماً بالموضوع إلماماً يثير الدهشة ..
في البداية شرح لي السبب العلمي للظاهرة فقال لي وهو يلف حبلاً غليظاً على ذراعه الضخمة :
" ليست هذه بالأسطورة صعبة التفسير .. فكل ما يحدث أن اشتداد تيارات الأمواج المدية واضطرابها يؤدي لحدوث الدوامات المائية الهائلة التي تأتي المالستروم في مقدمتها طبعاً .. ولكن خطورة هذه الدوامات تكمن في إنها تجعل الملاحة مستحيلة ! "
فسألته وانا أجاهد لأحتفظ بتوازني على حافة الزورق :
" كيف تبدوالمالستروم .. الحقيقة أنني لم أراها من قبل ! "
عندئذ توقف الرجل عن إكمال ما كان يعلمه وحدجني بنظرة مستنكرة مندهشة قوية وهتف غير مصدق :
" حقاً ؟! "
ثم عندما اومأت له برأسي هز رأسه بأسي وأجاب :
" إنها تتكون من فتحات واسعة مستديرة تضيق رويدا رويداً حتى تتلاشى .. مما يعطيها شكلاً عاماً أقرب إلى الكأس أو القمع ! "
فعدت أسأله :
" وهل تعرف شيئاً عن أسباب حدوثها ؟! "
هز رأسه بمعني " ليس كثيراً " وأجاب ببساطة :
" هناك رأيين لكل منهما مؤيدين ومعارضين :
الأول هو رأي " جوناس راموس " الذي أرجع حدوث هذه الدوامة الهائلة للمد والجزر .. الرأي الثاني وهو الأكثر قبولاً هو رأى " كيرتشر " الذي يدعي أن الدوامة تحدث نتيجة لوجود شرخ أو ثقب في قاع البحر يمتد طرفه الأول من أمام جزر " لوفوتن " ويمتد داخل الكرة الأرضية كلها وطرفه الثاني يخرج من الثقب الآخر في محيط بعيد ! "
أصابتني الدهشة وأنا جالس مكاني وكل هذه المعلومات تنهال على رأسي .. " كيرتشر " و" جوناس راموس " .. مد وجزر وثقب في الكرة الأرضية كلها ؟!
تري هل أنا ؛ الذي أنكببت على الكتب والمراجع طوال عمري ؛ ووصلت إلى هذه المرتبة العلمية الرفيعة أحق بأن أتباهي بمعارفي أكثر .. أم أن المجد الحقيقي هو لهذا الصياد البسيط الذي حصل معارفه وهو يكافح دوامة هائلة ليحصل على رزقه ؟!
أحسست فجأة بالألفة نحوه وزال جفائي العلمي السخيف فسألته بابتسامة صديقة :
" وأنت ؟! أي الرأيين تؤيد ؟! "
فبادلني ابتسامة صديقة وهتف وهو يلوح بذراعيه :
" تريد رأيي ؟! حسناً أنا أعتقد أنهما ؛ كليهما ؛ مجرد مغفلين !!"
أندهشت لرأيه الغريب هذا وكدت أسأله عن السبب عندما أشار بامتداد ذراعه إلى نقطة في الأفق البعيد وهتف بجزل :
" جزيرة "فورغ " .. طالما ظهرت في الأفق بهذا الشكل فهذا يعني أننا على وشك الوصول إلى جزيرة " موسكو " ! "
وفي هذه اللحظة بدأت أسوأ وأقسي لحظات عشتها في حياتي كلها !
************
في هذه اللحظات ؛ التي لن أنساها ؛ كنا جالسين نتبادل حديث شبه ودي أنا والصياد اللطيف عندما صرخت احدي الفتيات من مقدمة الزورق قائلة :
" بروفسور " أورلوك " .. تعال وأنظر ! "
تحركت من موضعي في تثاقل وذهبت إلى حيث تقف الفتاة فوجدتها هي ورفيقها ينظران بشغف إلى صفحة الماء .. نظرت إلى الموضع الذي يركزان بصرهما عليه فرأيت أن تحركات المياه بدأت تتغير تحتنا .. فالمياه أخذت شكل تيار يتجه بسرعة لا تصدق نحو الشرق .. وفي خلال دقائق كان البحر من أمام شاطئ ( لوفوتن ) حتى جزيرة ( فورغ ) في حالة غليان وصخب عنيف وتصاعد صوت عنيف يصم الآذان .. عندئذ جاء " فولسنك " بأقصى سرعة ووقف بقربنا وأخذ يتفحص سطح الماء والأفق بقلق بالغ .. مالت عليه " ايدا " لتسأله بدلال مصطنع :
" ماذا أيها الصياد الشجاع ؟! "
ولكنه رفع راحته وشخط فيها آمراً بحزم :
" اصمتي "
وقبل أن تمر دقيقتين جاءت وراءنا سحابة نحاسية ضخمة غريبة وبدأ ظلام غريب ينتشر من حولنا .. عندئذ أظلم وجه الصياد وغامت ملامحه وجذبني من ذراعي لنبتعد عن الطلاب المتجمعين في طرف الزورق ووضع فمه بالقرب من أذني ؛ ليتغلب على صوت الضجيج القادم من البحر ولئلا يسمعنا أحد في نفس الوقت ؛ وهتف بصوت مرتعش خوفاً :
" " موسكوستروم " ! "
فنظرت له غير فاهم دقيقة .. ثم انتابني الذعر .. لقد تذكرت أن بحارة النرويج وصياديها يطلقون اسم " موسكوستروم " على دوامة ( المالستروم ) .. وهذا يعني أن الدوامة الهائلة بدأت ونحن في عرض البحر !
************
أصيب الأولاد بحالة ذعر هائلة عندما أخبرناهم بأن ( المالستروم ) بدأت .. أصيبت الفتيات بحالات من الصراخ الهستيري وفقدت بنت أو اثنتان الوعي .. أما الأولاد فكان رد فعلهم أعنف وأكثر هستيرية فكثيرون منهم ذهبوا إلى دفة الزورق محاولين تحويلها للرجوع إلى الشاطئ .. وعندما صرخ فيهم " فولسنك " محذراً إياهم بأن محاولة الرجوع إلى الشاطئ الآن أكثر خطورة من البقاء حيث نحن ، أقدم بعضهم على محاولة إلقاء أنفسهم من الزورق معتقدين ؛ لحماقتهم ؛ أن بإمكانهم العودة إلى الشاطئ سباحة !
وفي الحقيقة أننا ؛ أنا و" فولسنك " ؛ منعناهم بشق الأنفس .. وبدأنا نحاول السيطرة على الموقف .. ولكن هذا كان في منتهي الصعوبة أولاً : لأن الطلبة كانوا في حالة ذعر وهلع تجعل جيش كامل غير قادر على السيطرة عليهم .. panic أمريكي مثالى .. وثانياً لأن الدوامات الصغيرة المنتشرة ما بين الشاطئ وبين جزيرة ( فورغ ) بدأت تندمج بسرعة رهيبة ..ونتج عن اندماجها ظهور دوامة واحدة ضخمة قطرها يزيد على كيلو متر !
وأمام أعيننا كانت أضخم دوامات العالم وأخطرها تتكون وتنتشر بإصرار .. والمصيبة أن زورقنا كان يتجه نحو الدوامة بإصرار أشد !
************
لا أذكر بالضبط كل تفاصيل هذه الساعات العصيبة العجيبة .. بل كل ما أذكره أن الصياد " فولسنك " أسرع نحو أجهزة النداء الإلى طالباً نجدة عاجلة من قوات حراس الشواطئ النرويجية .. وأخذ يرسل إشارات استغاثة ضوئية متعددة ..
المهم أن " فولسنك " وبينما كان منهمكاً في هذا العمل فجأة سقط منه الجهاز واستدار لينظر نحوي .. كان الظلام قد بدأ يزيد حدة وأصوات الهلع التي يطلقها الأولاد صارت مرعبة أكثر من أصوات وزئير الدوامة نفسها .. نظر لي " فولسنك " بوجه جامد غريب ورغم الظلام المنتشر حولنا إلا إنني أستطعت أن أري ملامحه الشاحبة من فرط الفزع وقال لي بصوت أكثر شحوباً لا أدري كيف سمعته وسط زئير الدوامة الهائل :
" لا أحد يجيب على استغاثاتي أو إشاراتي .. إننا ميتون يا بروفسور !"
وبعدها بثانية فقدت الوعي ولا أدري ما الذي حدث بعدها بالضبط .. كل ما أذكره هو زورقنا وهو يتجه بسرعة مهولة إلى عنان السماء تحمله موجة كالجبال ...ثم يهوي بشغف وبسرعة أكبر نحو طوق المياه الأبيض العريض الذي يحيط ب( المالستروم ) !
************
لا أدري كم بقيت غائباً عن الوعي .. فكل ما أذكره أنني أفقت لأجد نفسي على الأرض محاطاً بطلابي الساقطين حولي ... فتحت عيني لأجد " أودون " والصياد " فولسنك " راقدين عند قدمي ... زحفت نحوهما وتحسست نبضهما في قلق .. كانا حيين بالتأكيد .. ولكنهما مستغرقين في نوم هادئ عميق !
لا ليس مغشي عليهما ... بل هما نائمين بهدوء فتنفسهما منتظم وحدقات عيونهما تتحرك بشكل منتظم .. ولا توجد أي علامات على فقد الوعي !
زحفت نحو الباقين وتفحصتهم واحداً واحداً .. فوجدتهم جميعاً نائمين بهدوء كالملائكة !
تحاملت على نفسي ووقفت وسط الزورق .. كان مشهد بشع ذلك الذي قُدر لى أن أراه .. كان زوقنا معلقاً بالقرب من ذلك الطوق الأبيض العريض المحيط بالدوامة .. كنا بجواره بالضبط .. ولكن لماذا يقف الزورق مستوياً على سطح المائي بهدوء .. ولماذا يقف ثابتاً مكانه ولا يتحرك متجهاً نحو مركز الدوامة مثلما يتحرك كل شيء آخر على سطح البحر حولنا ؟!
فجأة لمحت شيء يرفرف ناحية دفة الزورق .. كانت بقايا ثوب كبير .. ذيول ثوب نسائي كبير أخضر اللون ترفرف على مقربة مني !
لم يكن موضعي ؛ مع كل هذا الظلام ؛ يسمح لي برؤية جيدة .. لذلك تحركت بضع خطوات إلى الأمام .. وهناك وعند الدفة كانت توجد فتاة .. فتاة عملاقة الحجم بشكل غريب تجلس إلى حافة الزورق وترتدي ثوباً أخضر له ذيول متعددة تتطاير مع الهواء مرفرفة حولها ... كان ظهرها لى فلم أستطع أن أري وجهها .. وإن كان هناك شيء واحد أثق فيه ..
إن هذه الفتاة ليست من تلميذاتي .. ولم تكن معنا عندما بدأنا الإبحار .. والأهم إنها ليست فتاة على الإطلاق .. بل ليست بشرية أصلاً !
************
كان ظهرها لي فلم أستطع أن أري ملامحها .. ولكنها استدارت فجأة وواجهتني .. كانت يدها ممسكة بالدفة والزورق كله ثابت تماماً تحت يدها العملاقة .. وكان شعرها الأحمر الكبير يتطاير حول رأسها معطياً لها مظهر أسطوري لا يدانيه شيء رأيته في حياتي..
استدارت لي فجأة إذن وهنا أدركت كنة الشيئين اللذين يبرزان من جانبي رأسها .. أنهما أذنان .. أذنان عملاقتان تشبهان أذني الأرنب أو الوطواط !
هل بقي لدي من شك ؟!
لا لقد تلاشي كل شك في نفسي .. إنها " مادين أويهاين " سواء أعترفت بذلك أم أنكرته !
كنت أسير نحوها كالمخدر .. كالمنوم مغنطيسياً محدقاً في وجهها البالغ الجمال ..
وكانت ثابتة تنظر إلى بثقة وثبات .. وعندما صرت على بعد خطوتين منها أبتسمت وقالت لي :
" هل تصدق الآن يا بروفسور ؟! "
ثم نظرت في عيني مباشرة بينما كان القمر يشرق علينا ببطء وثبات !
************
قبيل الفجر عثرت علينا قوات حرس الشواطئ النرويجية فقاموا بقطر زورقنا إلى شاطئ ( لوفوتن ) بعدما نقلونا إلى سفينتهم الصغيرة الفخمة ..
كان طلبتي كلهم بخير ولم يصبهم إلا صدمات عصبية بسيطة سرعان ما تغلبوا عليها .. وعادوا لمرحهم الصاخب وضحكاتهم المرحة مرة أخري ..
لكن الذي حير رجال الشواطئ النرويجيين هو كيف نجونا من هذه الدوامة .. كيف نجونا إذا كانت دوامة الثالث والعشرين من مارس هذه دخلت التاريخ كأكبر ( مالستروم ) حدثت منذ نحو قرنين ..
كان الرجال يبحثون وينقبون في كل صوب باحثين عن الحقيقة .. أما عني فقد رأيتها تثبت بيدها الزورق وتمنعه من أن تبتلعه الدوامة .. من هي ومن أين جاءت ؟!
أسئلة لا تهمني في قليل أو كثير .. المهم أنني رأيتها ذات مرة .. رأيتها رأى العينين وبادلتها الحديث .. على أنني أدعوا الله في كل ليلة ألا يحرمني ؛ قبل موتي ؛ من رؤية أخري لها !
منال عبد الحميد
kassasmanal.blogspot.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.