لم يعتقد إياد مدني في أسوأ كوابيسه أن خاتمته سوف تكون بهذه المهانة التي قد تتجاوز فعل المهانة الاول الذي سخر فيه من الرئيس المصري، وجاءت إقالته السريعة لتخمد نار الإدانة وتغلق بوابات الكراهية التي فتحها المصريون ولم تصل إلي آخرها، ولكن شاء من شاء أن تتحرك الدبلوماسية المصرية العتيدة وتوجه كلمات ربما كانت اقسي من اللوم والعتاب، وربما استدعت من قاموسها ما لم يتوقعه السعوديون أنفسهم .. لا الأسرة المالكة ولا الشعب، وربما تحولت الكلمات إلى تهديد يقلب الخطط ويربك التوازنات. استجابت السعودية وأقالت الأمين العام لمجلس التعاون الإسلامي الذي خلت كلماته من التزامات الوظيفة ومن رقي اللغة ودماثة الخلق ونبل المعني فجاءت ركيكة وفارغة وثقيلة الظل. انتهي الأمر برحيل الوزير السعودي، وهدأت حرب الميديا وبقيت دلالة ماحدث. انقسم المصريون إزاء ماحدث إلي ثلاث فرق أولها: فرقة قليلة .. خفيضة الصوت وعديمة الأثر، وهي فرقة من برر وعلل ما قاله الوزير السعودي بتبريرات خائبة لا تفرق بين نقد سياسات الرئيس وبين السخرية منه .. علي طريقة ( هو اللي جابه لنفسه ) وعلي منوال (في أوربا والدول المتقدمة )، واستبد بهم الغرض وليس المنطق والتحليل ..وبعد وقت قصير انزوا وفضلوا السكوت .وثانيها: فرقة السبوبة والاسترزاق من دولارات الكفيل السعودي حتي وإن كانوا في القاهرة ..تحدثوا عن العلاقات بين الدولتين الشقيقتين وأخوة الشعبين ..وتحدثوا عن الوزير الذي لا يقصد الاساءة ..ونبهوا الي ضرورة عدم الانحدار الي تعكير الصفو بين الشعبين والدولتين، وجاءت كلماتهم خاوية بلا قيمة ولا معني ولا أثر ..اللهم الا من أثر ضرورات الوظيفة وفروضها، فانصرف عنهم الناس وزادوهم تجاهلا واستجابوا إلى فطرتهم التي لم تقبل ما حدث ولا تستطيع تبريره تحت دعاوي واهية لا تدخل إلى القلب. وكانت الفرقة الثالثة من المصريين هي الطاغية الكاسحة التي جرجرت الموقف المصري الرسمي من ورائها ..غضب أغلب المصريين من إهانة الرئيس حتي الذين اختلفوا معه ..غضب من انتقدوه وهاجموه ..وفي لحظة الموقف الصحيح والفطرة السليمة استجابوا لفطرتهم، رفضوا ماحدث ..وتصاعد الرفض إلى فتح الدفاتر واستدعاء الماضي الذي يستدعونه في النوازل والنكبات .. ماضي مصر وماضي دولة آل سعود .. وانطلقت موجات الغضب إلى الجزر المصرية (تيران وصنافير) ولامست كلمات الوزير السعودي جرحا أغلقه البعض عن جهل أو عن علم، وهددت بفتح الجرح مع فتح الدفاتر كلها ..تفاءلت خيرا واعتقدت ان الرسالة وصلت ..وان القرار المنتظر (قادم) وان الفرج والمخرج جاء من عند الله .. وفي ساعات تمت الإقالة وهدأت الدنيا وبقي المعني والدرس. لم تكن الغضبة من أجل الرئيس وحده، وإنما كانت بين شعبين ودولتين يتباعد ما بينهما كما تتباعد السماء عن الارض ..بين تاريخين وثقافيين لا لقاء بينهما بحكم النشأة والتكوين وطبيعة مجتمع النهر ومجتمع القبيلة ..بين المصريين الذين ألقت بهم سنوات الإفقار والاستبداد إلى المملكة وصبروا علي ذُل الكفيل أو طبعوا مع الذل حتي تسير الحياة وبين السعوديين بدولاراتهم وريالاتهم وعجرفتهم واعتقادهم أن الدنيا تبدأ وتنتهي عند حدود المملكة التي تشتري الذمم والنفوس. انقلبت الأمور بعد كلمات الوزير الركيكة الساخرة ..كان يعتقد أنها ستمر ولم تمر، فالجيران رغم الأزمة لديهم حضارة وتاريخ، والجيران لديهم قيم مختلفة، ولديهم فهم آخر لا يعرفه الوزير السعودي ..الجيران لديهم مخزون -رغم الأزمة- يستدعونه ولا يرضون بالإساءة للرئيس ..الجيران يكرهون الجلافة والتمييز والاستعلاء والعجرفة والجهل لكنهم يصبرون علي جار السوء.