استضافت العاصمة الفرنسية باريس، الاثنين الماضي، اجتماعًا دوليًّا حول ليبيا. ووفقًا لتلويحات دبلوماسيين فرنسيين فإن انعقاد المؤتمر جاء لبحث جهود إعادة الأمن والاستقرار وتحقيق المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الليبي، الأمر الذي لم يحدث. غياب الليبيين الاجتماع المغلق الذي احتضنته باريس من أجل ليبيا كان بلا ليبيين، حيث ترأس الاجتماع وزير الخارجية جان مارك أيرولت، وحضر الاجتماع المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا مارتن كوبلر، ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، وممثلون عن بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وتركيا، فيما غاب ممثل الخارجية الأمريكية عن الاجتماع. ومن الجانب العربي شارك ممثلون عن قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر التي شاركت بوفد ترأسه سفيرها في ليبيا محمد أبو بكر. ولم تستدعِ فرنسا إلى هذا الاجتماع أي وفد من أطراف النزاع في ليبيا، لا من جهة حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، الذي كان موجودًا في الجزائر في زيارة رسمية تستمر ليومين، ولا من جهة الحكومة المؤقتة المنبثقة عن برلمان طبرق، رغم أن وزير خارجيتها محمد الدايري موجود حاليًّا في باريس، كما أن الاجتماع يأتي عقب زيارة أجراها فائز السراج لباريس السبت الماضي. وعلى الرغم من أن الهدف الأول من الاجتماع هو مناقشة مستقبل ليبيا واتفاق السلام، إلا أن فرنسا بررت خطوة الاستبعاد "الليبي" هذه تحت ذريعة أنها أرادت للنقاشات أن تكون حرة وشفافة بعيدًا عن القيود التي قد يفرضها الحضور الليبي. عدم تواجد الدول المؤثرة لا يعرف حتى الآن الأسباب التي دفعت باريس إلى استبعاد أطراف معنية بالأزمة الليبية، مثل الجزائر التي تحاول لعب دور الوسيط بين المتنازعين الليبيين، بالإضافة لاستبعاد تونس وتشاد والسودان والنيجر، حيث إن مصر هي الدولة الحدودية الوحيدة لليبيا المدعوة لهذا الاجتماع. وفي رد فعل أولي رأت الجزائر أنها غير معنية باجتماع باريس الذي لم تتلقَّ دعوة لحضوره، ولكن مراقبين قالوا إن الجزائر ردت على الاستبعاد الفرنسي لها، بدعوة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج إلى زيارة الجزائر في اليوم ذاته الذي احتضنت فيه باريس الاجتماع، في رسالة واضحة لفرنسا بأنه لا يمكن تجاوز الدور الجزائري بالسهولة التي تعتقدها باريس. وقال وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية عبد القادر مساهل إن الجزائر لا تكترث لكثرة المبادرات حول الأزمة الليبية، ولا تراها ذات أهمية في حل الأزمة، بل تنخرط في المسار الذي ترعاه الأممالمتحدة، كما كشف مساهل عن مبادرة لحل الأزمة الليبية سيطلقها الاتحاد الإفريقي قبل نهاية الشهر الجاري. الجدير بالذكر أنه سبق للجزائر أن وقفت بشدة في وجه التدخل العسكري الذي جرّت من خلاله فرنسا الحلف الأطلسي للتورط في هذا البلد خارج القانون الدولي لإسقاط معمر القذافي، كما سبق لها أن رفضت طلبات عدة لباريس من أجل التدخل العسكري في هذا البلد. منظمة عربية أيضًا تم تهميشها كالعادة، وهي جامعة الدول العربية، ويبدو أن الجانب الفرنسي تعامل معها كأنها وسيلة لتنفيذ قراراته وليست طرفًا في اتخاذ القرار، الأمر الذي دفع الجامعة للاحتجاج على عدم دعوتها إلى الاجتماع وتغييبها عن المشهد الليبي. وقال المتحدث باسم الجامعة العربية محمود عفيفي إن هناك توجهًا عربيًّا لأن تلعب الجامعة دورًا أكبر في الملف الليبي، وهو ما تجاهلته فرنسا بتغييبها الجامعة عن اجتماع باريس. ومن جهة أخرى هناك دول عالمية بدأت تنافس على مقاعد الزعامة العالمية تجنبت فرنسا دعوتها على الرغم من دورها الفعال في ليبيا، كروسيا والصين، حيث تدعم موسكو تحركات مصر باتجاه قوات حفتر. آليات اختيار الأعضاء المدعوة للاجتماع من أحد العوامل التي أدت إلى تعثر الاجتماع الطابع التمثيلي للأعضاء من حيث المشاركة والتوافق، فبعد اعتذار مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون السياسية فيديريكا موغيريني عن حضوره؛ وغياب ممثل الخارجية الأمريكية، تحول الاجتماع إلى لقاء على مستوى الدبلوماسيين وممثلي الدول المشاركة فيه، حيث انخفض مستواه من اجتماع وزاري إلى اجتماع لمسؤولين رفيعي المستوى، الأمر الذي جعل الاجتماع أقرب لأسلوب التفكير بصوت عالٍ منه إلى اجتماع يقرر مصير ليبيا. كما أن رؤى الدول المدعوة للمشاركة فيه متضاربة من حيث المبدأ، كل حسب مصالحها وأجنداتها، فإذا كانت مصر والإمارات تدعمان المشير خليفة حفتر، فإن كلًّا من تركياوقطر تدعمان الميلشيات الليبية المناهضة لحفتر. كما أن هناك خلافًا فرنسيًّا-قطريًّا حول ليبيا، حيث سارع المفتي الصادق الغرياني "المدعوم قطريًّا" عقب الإعلان عن مقتل العسكريين الفرنسيين في ليبيا بعد سقوط طائرتهم، إلى الدعوة للنفير العام؛ لمواجهة "الاحتلال الفرنسي"، لافتًا إلى أن الفرنسيين يقاتلون مع "عصابات حفتر" الثوار، ودافع عن سرايا الدفاع عن بنغازي بالقول إنها توجهت إلى المدينة "لرد الظلم". مشكلة فرنسا رغم الترويج الإعلامي بأن سبب فشل الاجتماع هو تسرّع باريس في عقد هذا المؤتمر "الدولي"، الأمر الذي حوله إلى اجتماع باهت دون تمثيل متوازن للأطراف المشاركة فيه، إلا أن عوامل أخرى أدت إلى فشله، منها غياب تنسيق باريس مع واشنطن التي تشارك بطائراتها في ليبيا. كما أن فرنسا هي جزء من المشكلة، ورعايتها للمؤتمر لا يختلف عن حال الذئب الذي يدعي حماية القطيع، خاصة أن فرنسا "الدولة المستعمرة" لها دور مشبوه حاليًّا في ليبيا، فهي متهمة بلعب دور مزدوج في ليبيا بدعمها العسكري لقوات حفتر، ووقوفها دبلوماسيًّا إلى جانب حكومة السراج. وعلى الرغم من عدم وضوح طبيعة الدعم العسكري الفرنسي الذي تتلقاه قوات حفتر، إلا أن تأكيد وجود عسكريين فرنسيين في معسكره يشير إلى أن باريس تخوض من هناك "معركة سرية في ليبيا"، معركة ذكرت صحيفة لوموند في وقت سابق أن الرئيس فرانسوا هولاند أقرها باعتبارها "عملًا عسكريًّا غير رسمي" تشارك فيه القوات الخاصة والاستخبارات، ويشمل "عمليات على الأرض، وتنفيذ ضربات دقيقة تستهدف زعماء الإسلاميين". كما أن تركيز الاجتماع الفرنسي على النفط الليبي يشير بوضوح إلى أن العين الباريسية تنظر إلى ليبيا على أنها حقل كبير من النفط ليس إلا، وبالتالي تأتي أي محاولات لإيجاد توافقات ليبية-ليبية في مراحل متدنية من الأجندة الليبية، حيث دعا وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك أيرولت، إلى أن يكون إنتاج النفط خاضعًا لسيطرة حكومة الوفاق الوطني، وأن يتم توجيه عائداته لخدمة التنمية في ليبيا، مشددًا على ضرورة توحيد الصف في مواجهة المخاطر التي تواجه البلاد، كما دعا الوزير الفرنسي باسم المجتمعين رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج إلى لم الأطراف الليبية كافة في التشكيلة الحكومية المقبلة التي ستقدم للبرلمان في طبرق من أجل التصويت عليها، بحيث يكون للمشير حفتر الذي سيطر مؤخرًا على الهلال النفطي مكان مناسب في الحكومة المقبلة؛ باعتبار أنه يمثل قوة عسكرية في الواقع حسب تعبير الوزير الفرنسي.