منذ خطاب توليه الرئاسة في يونيو 2014، وحتى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، دأب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على التأكيد أن توسيع العلاقات بين مصر وإسرائيل يمر عبر تعميمها على نطاق الدول العربية كاملة. وهذا ليس فقط إعادة تدوير لخطاب الدولة المباركية تجاه العلاقات مع تل أبيب بحسب متغيرات الوقت الراهن، ولكن كاتساق مع اتجاه "عربي" بقيادة السعودية يقود إلى تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية بشكل شامل ورسمي، وربما من خلال قرار جامعة الدول العربية التي باتت ترتهن للقرار السعودي والذي يتسق بالضرورة مع المصلحة الإسرائيلية، ولنا في قرارات الجامعة الأخيرة ضد «حزب الله» أقرب مثال. درجة حرارة السلام دشن السيسي مصطلح "السلام الدافئ" في كلمة له بمناسبة محلية بمحافظة أسيوط في مايو الماضي، ودون داعي أو مناسبة وجه حديثة للإسرائيليين، وطالب حكومتهم وإعلامهم بإذاعة كلمته في سابقة هي الأولى من نوعها لرئيس مصري يخاطب الرأي العام الإسرائيلي مباشرة، وإن لم تكن المرة الأولى التي يتحدث فيها عن توسيع "السلام" وتطويرها وتعميمها، وذلك كأحد ركائز سياسات مصر الخارجية في عهده، والتي شدد عليها في خطابه الأول كرئيس للجمهورية. وغني عن الذكر أن المصطلح الذي ربما اجترحه بعفوية مقصودة ينبع من قناعة بأن 37 عام من السلام مع إسرائيل كانوا "سلام بارد"، وهو بذلك يتوافق مع أصوات معظمها إسرائيلية دأبت على توجيه انتقادات للسلام مع مصر، كونه من وجهة نظرهم غير فعال ومُقيد على مستويات عدة، ولا يخدم مصلحة تل أبيب كونه أيضا لا يجعل من القاهرة شريك إقليمي، فالقاهرة تحصر نقاط التماس بين سياستها الخارجية ونظيرتها الإسرائيلية طبقاً لما نصت عليه اتفاقية السلام بينهما؛ التنسيق الأمني في سيناء، العلاقات الدبلوماسية العادية وتطويرها مستقبلاً لاقتصادية وثقافية، وتوسط القاهرة التقليدي فيما يخص المفاوضات مع الفلسطينيين. حتى أن الطفرة التي شهدتها العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد 2011 فيما يخص النقاط السابقة، وعلى رأسها مسألة التنسيق الأمني في سيناء لم تكن كافية للإسرائيليين؛ فعلى الرغم من أن معظم القوات المصرية الزائدة عن بنود العاهدة التي دخلت إلى سيناء بتنسيق مع الجانب الإسرائيلي بعد 2011، تركزت مهمتها بحسب مقال للمحرر السياسي لصحيفة «معاريف» في يونيو 2014 على "حماية الحدود من الجانب المصري ومنع شن هجمات إرهابية على إسرائيل من جنوبسيناء"، وهو ما لم يلبي طموح الاتجاه العام للحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تهدف إلى ما هو أبعد من ذلك في سياق تطوير العلاقات مع القاهرة، فحكومة نتنياهو من جانبها لم تكلّ طيلة الأعوام الخمس الماضية عن استعجال شراكة سياسية مع مصر على مستوى إقليمي، مثلما ما حدث إبان العدوان الأخير على قطاع غزة 2014، وميل إسرائيل لوساطة تركية-قطرية بديلة عن الوساطة المصرية التقليدية. لتبدأ عجلة تطوير العلاقات المصرية الإسرائيلية بشكل وافق كل من الأماني الثنائية والمناخ الإقليمي العام. مناخ سعودي مناسب.. وقيادة مشتركة تقاطع هذا المسار الثنائي بين مصر وإسرائيل مع مسار خليجي بقيادة الرياض يعجل التقارب بين عواصم مجلس التعاون الخليجي وتل أبيب، وهو التقارب الذي أمسى في الثلاثة أعوام الأخيرة توافق وتحالف، وتكامل كل من المسار المصري والسعودي في أكثر من مسألة، أخرها قرارات الجامعة العربية الخاصة باعتبار «حزب الله» تنظيم إرهابي في شباط/فبراير الماضي، وكذا وقف بث فضائيات اعتبرتها الرياض مناوئه على القمر المصري «نايل سات»، وهو بالطبع ما صب في مصلحة التقارب مع إسرائيل، التي امتدح رئيس حكومتها قرارات الجامعة العربية، واعتبر أن دول عربية على رأسها مصر والأردن يقفوا في خندق واحد مع تل أبيب! ولكن بالتدقيق في صورة المشهد السابق نجد أن القاهرة دأبت على نحو مستمر بالحفاظ على خصوصية مسار العلاقات مع إسرائيل وتطويرها، بعيداً عن عمومية الجهود السعودية في السياق نفسه، لنجد شبه اختلاف بين القاهرةوالرياض فيما يخص قيادة قاطرة التطبيع "العربية" مع تل أبيب؛ فمن ناحية كان الموقف المصري في العاميين الماضيين يسعى لتطوير العلاقات الثنائية، وسرعان ما تحول إلى محاولة إرشاد وإيجاد دور تقليدي مفقود في لعبة التقارب الخليجية الإسرائيلية، ولهذا كان خطاب "السلام الدافئ" مفاجئاً وبدا ظاهرياً خارج أي سياق، وما لبث خلال الشهور الأخيرة إلى أن تحول إلى ما يشبه تقاسم أدوار؛ حيث تقف مصر في موقعها التقليدي كأول دولة عربية تقيم علاقات مع إسرائيل وداخل نطاق دور الوسيط والراعي للمفاوضات مع الجانب الفلسطيني، فيما تكمل السعودية في قيادة المسعى العام بتطبيع شامل بين دول عربية وإسرائيل قائم رسمياً على تسوية القضية الفلسطينية من زاوية «المبادرة العربية للسلام» التي يعاد إحيائها بعد عشر سنوات على تبني المملكة والجامعة العربية لها، وسياسياً على أساس العداء المشترك الذي يجمع الرياض وتل أبيب ضد طهران ومحور المقاومة. الموقف المصري هذا قد يرجع إلى عدم القدرة في الوقت الراهن على لعب دور قاطرة التطبيع العربية مع تل أبيب، بالإضافة إلى تمسك الدولة المصرية ببوصلتها التقليدية القُطرية التي أسست وتعايشت عليها اتفاقية السلام لأكثر من 30 عاماً، والتي في جوهرها تكمن رؤية «ساداتية» مفادها أن مصر بعد السلام ستصبح مع إسرائيل شريك إقليمي مع الولاياتالمتحدة، وهو ما تمحورت -مع تغيرات طفيفة طيلة الثمانينيات والتسعينيات- حولها مساعي القاهرة كعراب ل"السلام" إبان عهد مبارك، أما الأن مع تغيرات كبيرة في خارطة السياسة الدولية والإقليمية فأن هذا الدور تقلص لمجرد وسيط في مفاوضات بين الفصائل الفلسطينية في غزة وبين تل أبيب، وهذا لا يلبي طموحات الرياض –الحليف الأول للقاهرة بعد 2013- في توسيع العلاقات العربية الإسرائيلية بدافع من عداء مشترك تجاه إيران، ولا يلبي حتى تطلعات إسرائيل الرامية إلى تطوير علاقاتها كقوة إقليمية تحظى بدعم وقبول عربي. أولويات مختلفة.. متكاملة هنا نجد أن هناك أولويات مختلفة لكل طرف من الأطراف السابقة برزت خلال العام الجاري؛ فأولاً السعودية لا ترمي بالاً إلى تطوير تحالفها مع إسرائيل من بوابة تسوية القضية الفلسطينية، اللهم كمبرر ظاهري لعلانية العلاقات ورسميتها، والأهم بالنسبة للمملكة هو تكاتف إقليمي في محور يضم إسرائيل ضد إيران ومحور المقاومة. أما مصر المنهكة والرازحة تحت وطأة الامتنان للمساعدات السعودية فلم تخرج كثيراً عن الإطار التقليدي للعلاقات مع إسرائيل بزواياه الثلاث سابقة الذكر، حيث أن تسليم القاهرة راية السلام مع إسرائيل للرياض يعني تراجع متزايد في دورها الإقليمي. ومؤخراً فقط بدأت القاهرة بمحاولة التعاطي المشترك والاستفادة من علاقات تل أبيب في أفريقيا وأثيوبيا تحديداً في أزمة سد النهضة، وهو الأمر الذي يشكل أولوية –ربما وحيدة- في سياسات مصر الخارجية مؤخراً، وهو ما نتج عنه مرحلة جديدة ملامحها الأولية هو اعتماد القاهرة على تل أبيب في إدارة ملفات خارجية جديدة على مسار العلاقات الثنائية بينهم، وهو ما تطور مؤخراً إلى إدارة إسرائيلية لأزمة مصر الخارجية في أثيوبيا، وهو ما يطابق نفس الدور السعودي في السياق نفسه. أما عن إسرائيل، فالأمر له دلالة استراتيجيه خطيرة تكمن في انعدام الخيارات التي تملكها القاهرة في ملف السد الأثيوبي وانسحاب ذلك على معظم ملفات السياسة الخارجية، التي ستصبح إسرائيل طرف أساسي فاعل فيها وشبه وحيد بالنسبة لمصر، في حين أنه في المقابل تمتلك إسرائيل بدائل عديدة في إدارة ملفاتها الخارجية والأمنية، فعلى سبيل المثل لجأت إسرائيل أكثر من مرة فيما يتعلق بقطاع غزة إلى توسيط أطراف إقليمية أخرى على رأسها تركيا. وبشكل أعم فإن المرحلة الراهنة في العلاقات بين تل أبيب والقاهرة، لا تشذ عن الإطار العام الحالي للعلاقات الإقليمية وريادة ومحورية الدور الإسرائيلي -وإن كانت تحاول الأخيرة الاحتفاظ بشيء من الخصوصية والتميز- والتي عوضت بمميزاتها هذه حرمان تل أبيب التاريخي من الاندماج الطبيعي في المنطقة، سواء بعلاقات متجذرة مع شعوبها، أو عبر أطر سياسية إقليمية مثل الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي، لتصبح إسرائيل الدولة المحورية التي تسعى إليها دول عربية وأفريقية لحل مشاكلها سواء بالتحالف وتقاطع المصالح كما الحال بالنسبة للتقارب السعودي- الإسرائيلي وعلاقته بإيران، أو لقلة الحيلة وانعدام البدائل كما الحال بالنسبة لمصر وأثيوبيا، وبالتالي يمكن الجزم بأن "السلام الدافئ" كعنوان عريض تكمن بداخله اختلاف أولويات أطرافه، إلا أنها في النهاية تتكامل وتصب في مصلحة طرف وحيد هو إسرائيل.