تابعت كغيري أزمة ألبان الأطفال التي تصاعدت فجأة, و لا أدري يقينا أكانت تلك الأزمة حقيقية أم مفتعلة, و تابعت ردود الفعل حول أمرها من المعارضين الذين أثاروا أسئلة جادة حول دور الجيش الذي وفّر فجأة 30 مليون عبوة بحسب تصريحات وزير الصحة, و هو أمر يدعو للاستغراب أو الريبة إن شئنا الحقيقة, و تابعت الجدل الدائر حول امبراطورية الجيش الإقتصادية و حول إن كانت القوات المسلحة تُعتبر منافسا تجاريا غير شريف و عن تبعات هذا علي الاقتصاد المتداعي, كما تابعت بيان المتحدث باسم القوات المسلحة حول الأزمة, و هو البيان الذي أشاد فيه المتحدث بدور القوات المسلحة في محاربة جشع التجار و دورها في توفير السلع و المنتجات. و هنا يبدو بمروية المتحدث العسكري للقصة بعض المنطق, فهي ترتكز علي أساس أن عبوة اللبن الواحدة تصل الميناء بتكلفة أقل من 20 جنيها, و لكنها تصل للمستهلك بنحو ثلاثة أضعاف هذا المبلغ, و هو هامش ربح مبالغ فيه للوكلاء المحليين حتي بعد خصم تكلفة النقل الداخلي و التخزين و التكاليف اللوجستية الأخري, و فيما يبرر المتحدث العسكري تدخل الجيش ككمبرادور أو سمسار أو وكيل محلي للسلع بأنه في صالح المستهلك, فإن المشكلة هنا تبدو في أمانة الطرح, فالمتحدث العسكري لم يحدد إن كان حديثه منصبّا علي عبوة اللبن المدعومة و التي تباع ب5 جنيهات للمستحقين, أم عن نوعيات أخري تباع بالصيدليات بأسعار تقارب تلك التقديرات الواردة بالبيان, فهناك أمور تجرح أمانة الطرح و إن بدا وجيها كما يعلم سيادة العقيد, فإغفال معلومات أساسية كنوع المنتج و سعره في بلد المنشأ و تصاريح تداوله و غيرها من الأمور المهمة تجعل من البيان كلاما مبهما و ذرا للرماد في العيون و حيدة عن النقاش الأساسي للأزمة, و الذي طرح أسئلة جادة عن ضرورة تدخل الجيش في الأنشطة التجارية وعن طبيعة دور المؤسسة في أمور كهذي و عن كيف تُدار دورة رأس المال بها وعن حق الدولة في الرقابة و في تحصيل الضرائب المستحقة وعن مدي تأثير ذلك علي أجواء المنافسة التجارية و الإستثمار و التوظيف, و هنا, وفي تقديري, تصلح هذه القصة لفهم طبيعة إمبراطورية الجيش الاقتصادية وكيف يري الجيش دوره في المجتمع, و هو ما ننوي نقاشه بحيدة قدر الإمكان و في ضوء ما هو متاح لنا من معلومات وأرقام موثقة سننشرها في سياقها!. البرجوازية اللقيطة والبوليتاريا الرثة لا يمكن نقاش أمر بتلك الجسامة و هذا التعقيد كامبراطورية الجيش الاقتصادية بمعزل عن التحولات التي طرأت علي الاقتصاد المصري في العقود الأربعة الأخيرة, كما لا يمكن مقارنة الأشياء إلا بنظيرتها حتي تتسق التقديرات, ولا يمكن الحديث عن الكمبرادورية العسكرية دون أن نعرج علي أزمة البرجوازية المصرية, و أزمة الأخيرة تلك أنها لم تولد نتيجة صراع مع نظم اقتصادية قديمة, ولم يأت بها تطور للقوي المنتجة كالذي حدث في أوروبا -مثلا- بل علي العكس تماما, فما نجحت تلك الطغمة من الكمبرادورات فيه حقا هو الحفاظ علي علاقات الإنتاج القديمة وعلي قوانين تنظيم العمل المجحفة, و من هنا فالبرجوازية المصرية ليست أكثر من مجرد مجموعة من محاسيب النظام التي مارست أبشع الممارسات الاحتكارية للتربح وتحقيق تراكم مذهل للثروة في وقت قصير, و هي اعتمدت في هذا على قربها من أروقة الحكم و علي فساد البيروقراطية وعلي قدرتها علي لعب دور السمسار أو الوكيل المحلي لرأس المال الأجنبي ودوائر احتكاراته, و هي بهذا المعني لقيطة و منحطة و غير قادرة علي التطور أو أن تكون حاضنة لأي شئ ذي معني أو قيمة!. ولهذا ورغم أن مصر ما قبل ثورة يناير كانت تحقق معدلات نمو تقارب ال7% في بعض الأحيان, و برغم زيادة الناتج المحلي وزيادة الصادرات, فإن المشكلة الحقيقة ظلت تكمن في غياب العدالة في توزيع عوائد التنمية, والسبب الرئيس في هذا يرجع إلي احتكارات المحاسيب من البورجوازية اللقيطة للمواد الأولية كالغاز والتعدين والأسمنت, و احتكارها أيضا لواردات السلع الاستهلاكية الأكثر رواجا و للوكالات المحلية في قطاع الخدمات المالية و العقارية علي الأخص!. وأنتجت هذه الأوضاع المشوهة فقرا متسارعا في الصعيد وفي الريف وهوامش المدن علي وجه الخصوص, الأمر الذي أنتج كتلة من البشر المسحوقين الذين يعيشون علي هامش الحياة الإقتصادية ويعملون في أعمال غير انتاجية ويفتقرون لأي وعي طبقي, كتلة مستباحة من البشر صار من السهل إخضاعها بل وحشدها لتعادي أنفسها و تقف علي الضفة الأخري من مصالحها, وتلك الجزئية تحديدا أراها من الأهمية بمكان لأن تُكتب تفصيلا, وسنتحدث عنها تفصيلا عندما يحين وقت الحديث عن جمهور الرداءة وعن التواطؤ العام والموالسة التي سمحت لتلك الكمبرادوريات أن تتوحش!. الكبرادور المسيطر لم يكن صعود طغمة المحاسيب وإثرائهم يحدث بعيدا عن أنوف ضباع المؤسسة المركزية بالدولة, وبذات منطق القطعان البدائية عادة ما يكون هناك ذكر مسيطر يستحوذ علي إناث القطيع وعلي العضّات الأولى من الفرائس, وقد تموضع الجيش في موقع الكبرادور المسيطر بحكم نفوذه علي الأراضي خارج كوردونات المدن, و بحكم سيطرته علي الأماكن الحساسة والمهمة والتي تمثل مرتكزات للاستثمار داخل المدن, و أيضا بحكم مزايا تم منحها له لطمأنة القادة عقب انزواء القادة من صدارة المشهد السياسي في أعقاب الحرب, وهي المزايا التي جعلت من المؤسسة كيانا فوق الرقابة أو المحاسبة بل ومنحته فيتو علي ما قد يتم سنه من قوانين قد تتعرض لدوائر نفوذه!. كانت كامب ديفيد تأسيسا لوضع جديد للمؤسسة العسكرية, ففعليا أصبح الجيش هو الوكيل المحلي للقوي الدولية والقيّم علي استقرار المنطقة, غير أن هذا ليس وضعا تم فرضه علي الموسسة كما تدّعي الأبواق القومية, فحقيقة الأمر أن قادة الجيش ورغم مساعدات و دعم السوفييت لهم خلال فترة تدشين دولة يوليو منذ مطلع الخمسنيات وحتي نهاية الستينيات لم يكن السوفييت يوما علي هوي تلك الطغمة الحاكمة من الآباء المؤسسين, و بمقدورك أن تستشعر في شهادات كبار العسكريين ومذكرات بطانتهم مدي كرههم للسوفييت وكرههم للوضع العالمي الذي فرض عليهم التعامل معهم, ولا أدّل علي ذلك من أن تعلم أن مصر ورغم الدعم السوفيتي الذي تحصّلت عليه في حروب مثل السويس والاستنزاف وفي مشاريع عملاقة كالسد العالي وإعادة تسليح الجيش لم توقع علي معاهدة الصداقة المصرية السوفيتية إلا بعد رحيل عبد الناصر, و هي المعاهدة التي وقّعها السادات كمناورة سياسية ليس إلا في فترة صراعه مع جماعة علي صبري كما كان يسمّيهم, وربما يمكننا الآن فهم مساعي مصر للنأي بنفسها عن المعسكر الشيوعي عبر تدشين حركات كعدم الانحياز أو الوحدة الإفريقية أو المؤتمر الإسلامي و إدّعاء الإنتماءات المختلفة, وكأن الرسالة للمعسكر الغربي كانت أننا لسنا ضمن هؤلاء الذين يرفعون راية العداء الحمراء, وفي هذا السياق أيضا يمكننا فهم سهولة تمرير قرار كقرار طرد الخبراء السوفييت من مصر وهم الحليف الرئيس لدولة في منطقة ملتهبة و في حالة حرب هي الطرف الأضعف فيها, وهو القرار الذي اتخذه السادات قبيل حرب أكتوبر ولم يكن أقل دلالة علي موقف كبار القادة من الإرتباط بالاتحاد السوفيتي!. لقد كانت قيادة الجيش حتي في الحقبة الاشتراكية ترى مصر جزءا من العالم المتقدم, و هو العالم الرأسمالي كما استقر في وجدانهم, وكان صراعهم مع هذا العالم هو صراعٌ للحاق به و نيل الاعتراف بأحقية انتمائهم له, لكن المقادير سارت بتلك القيادة نحو عداء لم يكن منه بد, وهي الحتمية التي اضطرتهم علي مضض شديد لمصافحة السوفييت والتعاون معهم, غير أن أهم الدروس التي تعلمها الجنرالات في هذه الفترة كان درس النكسة, لقد مثّلت هزيمة يونيو المذلة تأسيسا جديدا لموقع المؤسسة العسكرية وإن بقناعات لا تبدو جديدة للمتمعن, لقد استخلص الجنرالات من درس الخامس من يونيو أنه لا يمكن هزيمة الغرب وأنه لا ضرورة لاستعدائه ولا مناص من التعاون معه, وهي تلك القناعة التي صارت في حكم العقيدة فيما بعد, وحينها تحديدا كان الوقت الذي قرر فيه الجيش أن يكون وكيلا محليا للقوي الغربية, فقط ما كان متبقيا أن يخوض حربا لفض الاشتباك والجلوس علي مائدة التفاوض, و هو ما حدث! (يُتبع)