يرى طه حسين أن لزهير بن أبي سلمى عند القدماء صورتين، إحداهما التي يألفها الأدباء والنقاد وأصحاب اللغة، وهي صورة الشاعر الجاهلي المجيد الذي يزاحم فحول الشعراء، ويستأثر دونهم بالسبق. والصورة الثانية التي تعكس النزعة الدينية وستصل بنا إلى كعب وشعره، غير أنها تؤيد رأي طه حسين في قضية الانتحال، فأورد الكثير من الأبيات التي يرى أنها من وضع الرواة مثل قول زهير: ألا ليت شعري هل يرى الناسُ ما أرى من الأمْرِ أوْ يَبدو لهمْ ما بَدا لِيَا؟ بَدا ليَ أنَ النّاسَ تَفنى نُفُوسُهُمْ وأموالهمْ، ولا أرَى الدهرَ فانيا وإنِّي متى أهبطْ من الأرضِ تلعةً أجدْ أثراً قبلي جديداً وعافيا أراني، إذا ما بتُّ بتُّ على هوًى فثمَّ إذا أصبحتُ أصبحتُ غاديا إلى حُفْرَةٍ أُهْدَى إليْها مُقِيمَةٍ يَحُثّ إليها سائِقٌ من وَرَائِيا وهذه الأبيات أنكر الأصمعي نسبتها لزهير، ولما كانت الأبيات السابقة بها نزعة إيمانية ظاهرة، جاءت الرواية التي حفظت في التراث، أن زهيرا أخبر ولداه كعب وبجير أن هناك رسالة آتية من السماء، فعندما تأتي، عليكم باتباعها وتصديق صاحبها، ثم جاء الرسالة فانطلق بجير وكعب حتى يعرفا هذا الأمر الذي يتحدث به صاحب الرسالة السماوية ويتيقنا من صدقه أو عدمه، فلما بلغا الأبرق قال بجير لكعب: أقم هنا حتى آتي هذا الرجل فاسمع منه ثم أعود إليك، فأقام كعب وطالت إقامته وذهب بجير، فلما استيأس كعب من مقدم أخيه كتب له هذه الأبيات: ألا أبلغ عني بجيرا رسالة فهل لك إلى ما قلت ويحك هل لكا سقاك أبو بكر بكأس روية فانهلك المأمور منها وعلكا ففارقت أسباب الهدى واتبعته على أي شيء ويب غيرك دلكا على مذهب لم تلف أما ولا أبا عليه ولم تعرف عليه أخا لكا سرت هذه الأبيات حتى وصلت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، غير أن كعبا كان يحرض على هجائه، ومن هنا أهدر النبي دمه، وبعد أن فشل كعب في أن يختفي بعيدا أشار عليه أخوه بأن يأتي إلى النبي وسيشمله بعفوه، وهذا ما فعله كعب فقد ذهب إلى النبي وأنشده قصيدته المعروفة "بانت سعاد" التي يقول فيها: بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ وهنا يرى طه حسين أن قصيدة كعب تحمل طابع والده زهير، والدليل هذا الأبيات التي يقول فيها زهير: قامَتْ تَرَاءَى بذي ضَالٍ لتَحزُنَني وَلا محَالَةَ أنْ يَشتاقَ مَنْ عَشِقَا بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْماءَ خاذِلَةٍ منَ الظّباءِ تُراعي شادِناً خَرِقَا كأنّ رِيقَتَها بعدَ الكرَى اغتُبِقَتْ مِنْ طَيّبِ الرّاحِ لمّا يَعْدُ أن عَتُقَا شَجّ السُّقاةُ على ناجُودِها شَبِماً مِنْ ماءِ لِينَةَ لا طَرْقاً وَلا رَنِقَا ويقول معقبا على ذلك: "إن سعاد كعب كأسماء زهير، تشبه الظبي، وريق سعاد كريق أسماء يشبه الخمر الممزوجة بالماء البارد العذب. ظل طه حسين في ساعته مع كعب يدلل على تأثره الواضح بأبيه في نظم الشعر، إلى أن وصل مع صاحبه للأبيات الرائعة التي يمدح فيها الرسول قائلا: إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ لم ينته إعجاب النبي بقصيدة كعب عن إيمائه للجلوس بأن يحسنوا السمع، بل خلع النبي صلى الله عليه وسلم بردته وأعطاها لكعب جزاء لمديحه. وبعد أن انتهى طه حسين من ساعته مع كعب قاله صاحبه: أن مما يحزن حقا أن يذهب شعر كعب، فما أشك في إنه لو بقى لنا لكان حقيق بالإعجاب. فأجابه طه حسين قائلا:" حسبه هذه! فما أرى إلا أن مدحه فيها يعدل مدح زهير كله.