_نحتاج يسار جديد.. ونعاني من حكم "الحثالة" _ قرض الصندوق النقد بصقة في وجه شعار "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" تامر وجيه كاتب يساري مصري عمل بالصحافة والبحث والترجمة والدفاع عن حقوق الإنسان. حصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة القاهرة وماجستير الاجتماع من الجامعة الأمريكية. ساهم في العمل السياسي اليساري والثوري. ويكتب بصورة دورية في عدد من الصحف والدوريات المصرية والعربية في الاقتصاد السياسي والسياسة والشئون الدولية. جريدة البديل حاورت تامر وجيه عن رؤيته للوضع السياسي والاقتصادي وتداعيتهم المجتمعية في ظل سياسات تخفيض الدعم والعنف المفرط من قبل السلطة وتحجيم دور المؤسسات الرقابية والتصالح مع عدد كبير من لصوص المال العام .. وإلى نص الحوار. _ واحدة من أدوات هيمنة وشرعية دولة يوليو تدخلها في كافة قطاعات الحياة ومسؤولياتها الاجتماعية الواسعة عبر جهاز بيروقراطي ضخم، الآن تبدو الدولة عاجزة عن الوفاء بأي من هذه المسؤوليات كيف ترى هذا الوضع؟ وما الذي تراهن عليه السلطة للبقاء والاستمرار؟ المغزى التاريخي الأساسي للنيوليبرالية هو إنهاء العقد الاجتماعي الذي كان سائدا في العالم كله بطرق مختلفة، في المرحلة الذهبية للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية. النيوليبرالية ليست سياسة مصرية، هي سياسة عالمية، تأخذ أشكالا مختلفة، وتسير بمعدلات متفاوتة، لتصفية رأسمالية الدولة من ناحية ودولة الرفاه من ناحية ثانية. المشكلة، من وجهة نظر الرأسمالية، أن تصفية صيغ التراكم الرأسمالي التي كانت سائدة سابقا تعمل على تقويض الأسس التي قامت عليها صيغ الحكم وقواعد عمل المجال السياسي في مختلف بلدان العالم. بمعنى آخر: تصفية رأسمالية الدولة تضرب الأسس التي تقوم عليها الديكتاتورية الشعبوية كنموذج سائد للحكم في بلدان العالم الثالث، وتضرب الأسس التي تقوم عليها الإصلاحية كركيزة استقرار وتوافق في قلب الديمقراطيات الغربية. هذه عملية طويلة ومركبة، ولكنها تخلق، على وجه العموم، حالة من عدم الاستقرار السياسي، بل ربما تفسخ وتعفن سياسيين على المدى الطويل. الدولة الرأسمالية ليس لديها بديل للشعبوية والإصلاحية السابقتين إلا كوكتيل من السلطوية والفساد والعلاقات المشبوهة بين رأس المال والدولة، في مسار تدهوري طويل، وحركات المقاومة الصاعدة ليس لديها حتى الآن القوة الكافية لرسم صورة بديل متكامل. وهذا بالضبط حال مصر: انحطاط للدولة، وغياب البديل الناضج. _تزور مصر هذه الأيام بعثة صندوق النقد الدولي ورغم ضخامة المبلغ التي تطلب السلطة المصرية اقتراضه الا أنه ليس هناك أي حوار مجتمعي حول جدوى القرض وشروطه كيف ترى هذه الحالة من التعتيم والتشويش؟ وهل تملك السلطة بدائل تعفيها من الاقتراض؟ ليس هناك حوار مجتمعي على أي شيء، لأن الحوار المجتمعي، من وجهة نظر الممارسة الديمقراطية، يتطلب وجود مؤسسات في بنية النظام أولا تعبر عن قوى المجتمع المختلفة، وثانيا قادرة على التأثير بطرق مؤسسية وشرعية، هذا كله غائب بفضل هجمة الثورة المضادة. أما قرض الصندوق فهو بصقة في وجه شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" الذي رفعته الثورة، لأنه أحد التعبيرات المباشرة الصافية عن التبني الكامل لسياسات السوق الحر بما تتضمنه من إلغاء نهائي للدعم وتعويم للجنيه وزيادة في الضرائب غير المباشرة وغيرها من سياسات الإفقار. أما سؤال "هل تمتلك السلطة بدائل للقرض؟" فهو يدعونا أولا إلى طرح سؤال "سلطة من؟" بمعنى آخر: بدائل السلطة ليست مسألة تقنية ولا موضوعية، وإنما هي مرتبطة بطبيعتها الطبقية ومشروعها السياسي، وبما أن السلطة الراهنة هي سلطة الثورة المضادة، فبدائلها تنبع من مشروعها، ومشروعها ينبع من مصالح التحالف الذي تعبر عنه. وفي ظني أن التحالف الحاكم يؤسس سياسته الاقتصادية الحالية على هدف سياسي واضح: شراء الوقت للاستمرار في الحكم. الاقتراض الواسع غير المسبوق هدفه تسوية التزامات اليوم وغدا حتى لا تنفجر الأمور في ظل الإفقار غير المسبوق. ولكن النتيجة ستكون تعميق الأزمة ومراكمة المرارات. أما البدائل من وجهة نظر مشروع سياسي آخر، مشروع الثورة الديمقراطية ذات النفس الاجتماعي، فهي موجودة، وجوهرها هو الخروج من الأزمة الراهنة بتحميل الطبقات المالكة الجزء الأكبر من العبء، مع اتباع سياسات توسعية لها أثرها الفعال، والمستدام نسبيا، في مجالي التشغيل والاستهلاك المنزلي. _قانون الخدمة المدنية واحد من القضايا التي حظيت بزخم واعتراض كبير ومع ذلك تم تمريره كيف ترى تداعيات القانون على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما السبيل برأيك لاصلاح الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية؟ لابد أولا من التفرقة بين العاملين لدى الدولة وبين الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية بوجه عام. العاملون لدى الدولة ليسوا كلهم بيروقراطيين، الجزء الأكبر منهم عمال ومهنيين يقدمون خدمات حقيقية للمواطنين في مجالات كالصحة والتعليم. ولذا ليس من المنطقي ترديد الكلام الساذج عن وجود 7 مليون موظف لا نحتاج معظمهم. لا نحن نحتاج كثير من هؤلاء، بل نحتاج إلى زيادتهم في بعض المجالات، ومنها، مرة أخرى، الصحة والتعليم. لكن هذا كله لا ينفي أن هناك تضخم في بيروقراطية الدولة، وسبب هذا التضخم اختيار الدولة أن ترشو بعض المواطنين رشوة تافهة بتعيينهم في وظائف بيروقراطية غير نافعة على خلفية فشلها وفشل الرأسمالية المصرية في تحقيق تنمية تستوعب قوة العمل المتزايدة في مجالات نافعة. وبالتالي فإصلاح الجهاز الإداري للدولة، وترشيد بيروقراطيتها، ليس له معنى بدون وجود سياسات تشغيل تحل أزمة البطالة. إذا كان الخيار هو بين طرد البيروقراطية إلى الشارع أو بقائها في وظائفها بلا منفعة، والخياران سيئان، فلا شك أن اختيار بقاءها هو الأكثر إنسانية وأخلاقية. لكن في ظل سلطة من نوع آخر ستكون هناك بدائل أخرى مثل إعادة تأهيل البيروقراطية غير النافعة وتوجيهها إلى وظائف نافعة في إطار خطة واضحة للتشغيل، وترقية الخدمات وتحسينها، إلخ. أما قانون الخدمة المدنية فهو، مرة أخرى، أحد أدوات الدولة لتنفيذ سياستها النيوليبرالية القبيحة، والسياسة هنا بسيطة، "فليذهبوا إلى الجحيم، فقط نريد تنظيف جهازنا البيروقراطي من الزوائد غير النافعة والمكلفة"، وكأن حياة البشر ليست هي الهدف الأسمى من سياسة الدولة!. _وصفت في مقالتك التي حملت عنوان "في الخامس والعشرين من أبريل 2016، هل انتصرنا أم هُزِمنا؟" منظومة الحكم حاليًا بكونها "حُكم الحثالة حرفيًا" ما الذي يعنيه هذا التعبير؟ وما هى أبرز تمثلاته في الواقع؟ وما أبرز صوره التاريخية في مصر والعالم؟ حكم الحثالة يتمثل في نماذج الحكم الذي نتجت في أحيان كثيرة عن عملية تآكل أسس استقرار الديكتاتوريات الشعبوية والديمقراطيات الغربية. وما أقصده هنا بالتحديد هو نماذج الحكم الناتجة عن انهيار رأسماليات الدولة في بلدان كثيرة. أهم الأمثلة هنا هي روسيا في ظل بوتين، حيث أدى انهيار تماسك الطبقة الحاكمة والمالكة في الاتحاد السوفيتي إلى تأسيس نموذج حكم سلطوي مخيف يقوم على تحالف المؤسسات الأمنية والقمعية وحيتان السوق (وكثير منهم خارج من عب الأجهزة) والمافيا بمعنى الجريمة المنظمة. هذا نموذج أسوأ حتى من رأسمالية المحاسيب التي كُتب عنها كثيرا لفهم نموذج التطور الرأسمالي في بلدان متأخرة مثل مصر. هو نموذج مافياوي تتنافس فيه تحالفات أمنية-مالية على الفائض بشكل متوحش يفرغ الديمقراطية، بمعناها الإجرائي، من معناها تماما. _في ظل سيادة سياسات النيوليبرالية وسطوة منظومة العولمة تغيرت العديد من المعاني والدلالات، منها الصورة التقليدية للطبقات الاجتماعية برأيك ماذا تعنى الطبقة العاملة الآن وكذلك الطبقة الوسطى؟ وهل استطاع اليسار إنتاج خطاب يراعي هذه المتغيرات وقادر على مواجهتها؟ طبعا الدنيا تغيرت في ظل النيوليبرالية، تغيرت موضوعيا وتغيرت من ناحية الأفكار، أي من ناحية الوعي بطبيعة الوضع الموضوعي. فمثلا يمكننا التأكيد أن الطبقة العاملة عالميا الآن عددها ونسبتها أكبر بكثير من الوضع قبل ستين أو سبعين عاما. يكفي فقط أن تنظر إلى ما حدث في الصين وإندونيسيا والهند وباكستان حتى تعرف أن الطبقة العاملة العالمية تضاعفت في أعدادها. لكن رغم ذلك فإن هناك نفي أيديولوجي للطبقة العاملة. أقصد بهذا أن هناك اعتقاد سائد أن أي حديث عنها يعد "شيئا من الماضي"، وهذا طبعا سببه انهيار اليسار، والأهم ضعف القوة المنظمة للطبقة العاملة، فهي تزيد عددا، ولكن لا تزيد عدة! كل هذا لا ينفي أن الطبقة العاملة (ومعها الطبقة الوسطى وباقي الطبقات) تعرضت لتغييرات مهمة وأساسية. فأولا عملية تراكم رأس المال على الصعيد العالمي أعادت مركزة الطبقة العاملة الصناعية، بالمعنى التقليدي، في بلدان الجنوب والشرق، وأصبحت بريطانيا مثلا دولة أغلب عمالها عمال خدمات. وثانيا كان من آثار النيوليبرالية – إلى جانب إعادة هيكلة الطبقة العاملة – تفتيت العاملين بأجر وتأقيت علاقتهم بمؤسسة العمل بزيادة نماذج العمل بعض الوقت والعمل بالتعاقد وغيره من الوسائل. باختصار: العمل بأجر الخاضع لسلطة رأس المال والمنتج للقيمة (سلع وخدمات) يزيد عددا ونسبة، لكن بنيته وتوزيعه الجغرافي ووعيه ودرجة تسيسه تتغير. وهذا بالقطع أدى إلى فشل اليسار، في حالات كثيرة، في إدراك استتباعاته السياسية على مستوى الفعل والخطاب. لكن إن كنا سنتحدث عن اليسار، فإن آفته الأكبر كانت هجر السياسة الطبقية من الأساس، وتبني خطاب ربما حقوقي، ربما ليبرالي اجتماعي، وذلك في لحظة من التاريخ تتعرض فيها الجماهير العاملة بأجر لأكبر هجمة في تاريخها. هذا مأزق أوضحته سلبا وإيجابا تجربة اليونان. نحن نحتاج إلى يسار جديد، وهذا شيء لن يسقط كهدية من السماء، بل دونه عملية تاريخية طويلة وصعبة، قد تؤتي ثمرة في الأجل المنظور، وقد نشهد – للأسف – ملء أمثال دونالد ترامب للفراغ القائم. _رغم الحديث عن صعود الأحزاب اليسارية في اليونان وإسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأووبية لم نر أي تغيرات في بنية الحكم ما السبب برأيك؟ الحالة الوحيدة التي صعد فيها "اليسار الجديد: إلى الحكم بالمعنى الحرفي هي حالة اليونان. كل الحالات الأخرى كان اليسار الجديد فيها شريك أصغر في حكومة ائتلافية. أما اليونان فقد كانت سيريزا هي الشريك الأساسي في الحكومة. وأزمة سيريزا في الحقيقة تكشف لنا عن طبيعة المرحلة الانتقالية التي نمر بها. فاليسار الجديد، إن وجد وكان خطابه مناسبا، قادر على كسب الانتخابات وجذب قطاعات واسعة من الجماهير. لكن اليسار الجديد كذلك غير مؤهل لتلبية الآمال العراض للجماهير التي وضعته على مقعد الحكم بالضبط ليكسر القواعد السائدة للعبة. تفسير هذا – جزئيا – يرجع إلى تكوين اليسار الجديد نفسه، فهو يضم عناصر وتيارات متنافرة يغلب على جزء أساسي منها الارتعاد من أي قطيعة مع منظومة السلطة السائدة. سيريزا دفعته جماهيره لرفض برنامج الإصلاح التقشفي الأوروبي، لكن قادته ارتعدوا من التنفيذ. هذه هي الأزمة. والمفارقة أن اليمين البريطاني لم يرتعد من تنفيذ سياسته بالخروج من الاتحاد الأوروبي بعد أزمة سيريزا بشهور. لكني أرى ما يحدث بصفته عملية تاريخية. لازلنا نحتاج إلى الوقت لتمتين وإنضاج يسار جذري جديد قادر على قيادة مواجهة السنوات القادمة. _رغم أهمية علم الاقتصاد ودوره الفاعل في حياة البشر في خلال العقود الماضية إلا إن الخطابات المهيمنة في مصر والعالم هى خطابات الهوية والحرب كيف ترى هذا التناقض؟ صحيح تماما. الرأسمالية تتوحش، والنيوليبرالية في معضلة بعد أزمة 2008-2009، ولكن أصوات سياسات الهوية تتصاعد، بينما السياسة الطبقية في تراجع تاريخي (مقارنة بالسبعينات مثلا). هذا ميراث لمسيرة طويلة، ميراث لانهيار اليسار الستاليني وتعفن اليسار الوطني، ميراث لإنهاك الطبقة العاملة وتفتيتها في ظل النيوليبرالية، وميراث لعوامل مركبة عديدة. يمكنك أن ترى في هذا الحال مبررا لليأس، لكن يمكنك أن تراه لحظة في عملية تاريخية لها ما بعدها، فبالنظر إلى أحداث العقد ونصف الماضيين يمكننا أن نلاحظ أن المسار معقد ومتناقض: من ناحية أولى رأينا حركات مناهضة العولمة والحرب، وانتفاضة فلسطينية ثانية، وانتفاضات طبقية متعددة في أمريكا اللاتينية، وموجة ثورات عربية، ومقاومة واسعة وملهمة للإمبريالية في العراق وأفغانستان وغيرهما، وصعود لليسار في اليونان وغيرها، ومن ناحية ثانية رأينا كذلك صعود اليمين الفاشي، وانتصارات الداعشية، وتفكك الدول، وهزائم الثورات، وغير ذلك من الأمور. إذن فهي عملية مركبة فيها من هذا وفيها من ذاك، ولازلنا نعيشها. الكرة ما زالت في الملعب. الوضع سيء الآن هذا صحيح. لكن الشد والجذب مازالا على أشدهما. وهناك عوامل تأسيسية يستند إليها الاعتقاد بأن فرص ومجالات بناء حركة جماهيرية جذرية تطرح نفسها كبديل هو أمر ممكن، فضلا عن أنه ضروري في ظل البربرية المتصاعدة والمتمثلة في اليمين هنا وفي كل العالم.