تأتي الدراسة التي أعدّها الأستاذ الدكتور مجاهد الجندي بعنوان "الجامع الأحمدي شقيق الجامع الأزهر" من أهم الدراسات التي أبرزت مكانة وتاريخ الحركة العملية والثقافية والتراثية في الجامع الأحمدي، بجانب الدراسة التي سطّرها المرحوم محمد عبد الجواد في كتابه "قصة مجاور في الجامع الأحمدي"، إلا أن الأخيرة أتت كأنها سيرة ذاتية لشخص قضى سنوات من حياته طالبًا بجامع يُعدّ حاضنة من حواضن العلم في عصره. لكن الدراسة الأوسع التي نعنيها هي دراسة تتركز على الجامع الأحمدي ودوره العظيم في التربية والتعليم وتخريج العلماء وما يكون بين ذلك من دروس العلم وحلقاته ومتونه ومخطوطاته وأمهات الكتب والامتحانات والأوقاف وما إلى ذلك. هناك إبان أواخر فترة حكم المماليك لمصر، سيطر علي بك الكبير على أنحاء المحروسة، وبسط عليها نفوذه، وكانت له اعتقادات في ولاية الشيخ مجاهد "سيدي مجاهد" خليفة المقام الأحمدي؛ فلما أراد إكرامه، وتنفيذ طلباته، لم يكن للشيخ مجاهد سوى مطلب وحيد هو إنشاء مسجد للسيد أحمد البدوي، ففعل علي بك ما أراده الشيخ مجاهد، وبنى المسجد، كأوّل خطوة نحو مسيرة التعمير التي شهدتها قلب الدلتا (طنتدا) كما كانت تُسمى وهي "مدينة طنطا الحالية". علي بك الكبير يبني الجامع الأحمدي وكانت القاهرة تعجّ بالحركة العلمية داخل الجامع الأزهر وما يتبعه من مدارس، فأنشأ علي بك على غرار الأزهر الجامع الأحمدي، ووضع وقفيّات على تدريس العلوم الشرعية واللغوية داخل الجامع، إضافة إلى تلاوات للقرآن والذكر آناء الليل وأطراف النهار داخل المقام الأحمدي، وما استتبع ذلك من بناء سكن للطلبة المجاورين -والمجاور لقب يطلق على المسلم الذي يعيش في أحد الأماكن المقدسة بقصد العبادة أو التعلّم أو التدريس- إضافة إلى الفقراء والمريدين واليتامى. كان الجامع الأحمدي يُعانق الجامع الأزهر ويضاهيه في تدريس العلوم، وكان يفوق الجامع الأزهر أحيانا في بعض الأمور التي يعرفها أهل الاختصاص، كتلاوة القرآن بالقراءات العشر بطرقها المشهورة، حتى قيل "لا قرآن إلا أحمدي"، أي لا علم بتلاوات القرآن سوى في الجامع الأحمدي. وكانت العلوم المنتشرة في ذلك الوقت كما هو معلوم، العلوم الشرعية من فقه وتفسير وحديث ونحو وصرف وبيان ومنطق وتوحيد.. وما إلى ذلك، وكانت حياة المجاورين تتلخص في ذلك، فبين فقه إلى لغة إلى توحيد، يدور وقت الطلبة ومدرسيهم. حركة علمية كاملة، حفظت على مصر لغتها العربية وهويتها الدينية في ذلك الوقت. وكانت طنطا قلب الدلتا النابض بذلك، يأتيها الطلبة من كل مكان، كما الجامع الأزهر سواء بسواء، إلا أنها كانت قاصرة على المصريين. مقام سيدي مجاهد مدارس العلم بالجامع الأحمدي كان رحاب الجامع الأحمدي يحوي مجموعة من المدارس المتعددة: مدرسة الغربية وتحوي قاطني مديرية الغربية في ذلك الوقت بمراكزها المختلفة، كمركز الجعفرية، ومركز محلة منوف، ومركز زفتى، ومركز كفر الشيخ قبل أن يصبح محافظة، ومركز سمنود، ومركز كفر الزيات، ومركز طنطا، ومركز طلخا، ومركز شربين. ومدرسة المنوفية: وتحوي قاطني مركز تلا، ومركز مليج، ومركز منوف، ومركز سبك. ومدرسة الدقهلية: وتحوي قاطني مركز المنصورة، ومركز ميت غمر، ومركز منية سمنود، ومركز السنبلاوين. ومدرسة البحيرة: مركز الدلنجات، ومركز النجيلة، ومركز شبرا خيت. ومدرسة الشرقية: وتحوي قاطني مركز الإبراهيمية، ومركز منية القمح، ومركز القنيات، ومركز الصوالح. ثم تبدّل الحال بعد ذلك فيما طرأ على حركة التجديد والإصلاح داخل المنظومة التعليمية وخاصة الدينية منها، فأرادت القيادة السياسية في ذلك الوقت بتبعية كل المدارس الدينية والجوامع للأزهر بالقاهرة، بعد وضع خطة إصلاح الأزهر وإنشاء المعاهد، فتحوّلت الدراسة من الجامع الأحمدي بعد أن كانت مستقلّة إلى تبعيّة الأزهر. هيأ ذلك المناخ تحويل الدراسة في صحن الجامع وبين أعمدته إلى فصول مدرسيّة على النظام الجديد، وتولّى عمادة الأحمدي شيخ كبير يوازي مكانته مكانة شيخ الأزهر نفسه، بل ممن تولّى مشيخة الجامع الأحمدي، من أصبح شيخًا للأزهر كالشيخ الأحمدي الظواهري. مقام أحمد البدوي وتحجّمت وظيفة شيخه بعد أن كان له سلطة تقرير الكتب التي تدرس والمناهج التي تُقرر، والمدرسين المتولّين التدريس، إلى رفع تقرير سنوي من مشيخة الجامع الأحمدي إلى مشيخة الجامع الأزهر، تتضمّن عدد الطلاب في مبدأ الدراسة وآخرها، والمدرسون ومقدرتهم على الأعمال ومواظبتهم، والأمور التي تناولها النظام الجديد من الأعمال، والمناهج المقررة والكتب التي وضعت له، ونفسية الطلاب وحالتهم العلمية والخلقية والصحيّة، وحالة المعهد والأثاث، والامتتحانات ونتائجها، والخدمة الدوريّة، وبعض المقترحات التي يُنظر فيها. مقام سيدي أحمد البدوي وآل الأمر الآن بالجامع الأحمدي بعد أن كان جامعة إقليمية في قلب الدلتا إلى خُلُوّه من أي مادّة تُدرّس، وأصبح قاصرًا على كونه مسجدًا تُقام فيه الصلوات، ومزارًا يُزار فيه السيد أحمد البدوي وخلفائه سيدي مجاهد، وسيدي عبد العال. فإلى أيّ شيء سيصير حال الجامع بعد ذلك … الله أعلم.